بالتسامح .. التعايش الطائفي ممكن؟
هل التعايش الطائفي ممكن؟ سؤال تطرحه تطورات الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية أو الشرق أوسطية وتثير مناقشات حامية للكثير من القضايا الكبرى، والتي منها تعايش طوائف إسلامية أو بلغة أكثر حيادية منتسبة للإسلام، ضمن دولة توصف بأنها إسلامية.
قبل إبداء وجهة نظري، فإنني أرى أن من المهم شرح المقصود بكلمتي تعايش وإسلامية. أما الكلمة الأولى تعايش فأعني بها التعايش المصحوب بالتسامح والاعتراف المتبادل، بمعنى اعتبار الخلافات بين الفرق أو الطوائف داخل في دائرة الاجتهاد بتعبير الأصوليين (أعني علماء أصول الفقه)، أو ما عبر عنه البعض بتعاون الفرق (كالسنة والشيعة) فيما اتفق عليه، والتسامح مع الآخر فيما اختلف فيه. وأما المقصود بإسلامية فأعني الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية وفق فهم جمهور مشايخ كل فرقة أو طائفة، أي وفق المنهجية والفتاوى الصادرة من علماء كل طائفة، والموجهة إلى أو المجيبة على استفسارات من المنتمين لنفس الطائفة.
يرى كثيرون إمكان ذلك التعايش ضمن دولة توصف بأنها إسلامية بالمعنى السابق شرحه، وقد انتشرت دعوات إلى التقارب وترك التعصب باعتبار أن الجميع ينتسبون إلى دين واحد، أو في تعبير هؤلاء لأن الجميع مسلمون. وهذه الدعوات قد يحسن الظن بها وقد يساء، ولكننا لسنا على إطلاع على ما تكنه الصدور، ولنا الباعث الظاهر المعلن، الذي هو محاولة لدرء أو تخفيف ما جرى عبر التاريخ من محن وحروب ومصائب ناشئة من الخلاف المذهبي غير السلمي، والذي كان من أسباب ضعف المسلمين وتمزقهم. ولا يخفى سهولة بث الفتن بين مختلف التيارات المنتسبة للإسلام، إما باستدعاء حادثة تاريخية، وإما بالرجوع إلى فتاوى أو كتابات صدرت من أحد الجانبين... إلخ. ومن يستعرض تاريخ المسلمين يجد أنهم لم يتضرروا من عدو خارجي بقدر ما تضرروا من الحروب والنزاعات بينهم، وعموما فإن التفصيل في هذا ليس هو من صلب موضوع هذه المقالة.
وعودا إلى السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة فإنني أرى أن الإجابة بالنفي، وأرى أن القائلين بالإمكان يجهلون أو يتجاهلون فحوى ومقتضيات تلك الدعوات، ومدى انسجامها أو تناقضها مع أصول وتطبيق كل فرقة.
من يطلع على تطبيقات كل طائفة مشهورة، يعرف أن الخلافات والفروقات جوهرية أو جذرية سواء من حيث البناء العقدي أو الفقهي، بحيث تمنع من جمع الطوائف في إطار دولة إسلامية بمعناها الذي قدمناه. الخلافات ليست في فروع بل في أصول كل فريق، والتي يعني الأخذ بها رفض أصول لدى الآخر بصورة قطعية وليست بصورة اجتهادية، وقبول ما لدى الآخر يعني هدما لكثير من الأصول التي يبنى عليها القابل مذهبه، والتي تحكم حدود الاجتهاد كما هو جار ومتبع.
الخلافات ليست فقط في فهم النصوص والوقائع، بل أيضا في صحة أكثرها، هو خلاف في صحة نصوص تبين وتفسر القرآن، وفي صحة وقائع التاريخ، وهي خلافات ضاربة في الجذور وروايات كل طرف تنقض روايات لدى الآخر، وكل طرف لديه منهج في إثبات الروايات هو في أحد أسسه مبني على تكذيب الآخر.
يقترح البعض خروجا من المشكلة، الاحتجاج بالقرآن فقط. السؤال الآن: ماذا يبنى أو يترتب على هذا القول؟ للإجابة أقترح على القارئ أن يتخيل مثلا كيفية أداء العبادات أو تطبيق الشريعة بناء على نصوص القرآن فقط.
قبول الطائفتين يعني في حده الأدنى أن الأخذ بالحديث قضية اجتهادية مثله مثل أكثر القضايا الفقهية. ويعني في حد أعلى أن الأحاديث ليست ملزمة، نظرا لقبول الشك في صحة بعضها أو تكذيبها، وهذا منحى له ما له من الآثار التي قد تغيب عن أذهان داعين إلى التعايش.
من أهم الآثار أن قبول التعايش بالمعنى الموضح سابقا، يستلزم توسيع دائرة التسامح، لتشمل آراء اشتهر التعبير عنها في وسائل الإعلام على أنها آراء ليبرالية أو متحررة في فهم النصوص، أي عليه أن يقبل بالعصرنة والتطوير كما يسميها البعض. أي عليه أن يتسامح مع أولئك الساعين إلى – كما يرونه - تطوير وتحديث فهم الشريعة، بغرض الوصول إلى فهم عصري لأحكام وتشريعات الإسلام، تتلاءم – حسب مرئياتهم - مع روح العصر وحقوق الإنسان، في قضايا كثيرة مثل قضايا حجاب المرأة المسلمة وحقوقها وفوائد البنوك والقوانين التجارية والمدنية والحدود والعلاقات الدولية، وغيرها كثير.
الإشكال أن ذلك التوسيع غير مقبول لدى كبار مشائخ كل فرقة.
ما المخرج من فتن وشرور الطائفية؟ هذا هو التحدي الذي يواجه العالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة وبقوة اليوم.