الشراكة البناءة .. طريق لنجاح ملف جدة التاريخية
في الأسبوع الماضي زف الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسـياحة والآثار البُشرى وأعلن أن لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو اعتمدت جدة التاريخية موقعاً ثقافياً وطبيعياً ذات قيمة اسـتثنائية للتراث الإنساني.
وموقع جدة التاريخية يضاف إلى موقع الدرعية التاريخي وموقع الحجر (مدائن صالح)، وبذلك يصبح لدى المملكة العربية السعودية ثلاثة مواقع تاريخية في قائمة التراث العالمي.
هنا نسـتطيع أن نقول: إذا كان البترول ثروة ناضبة، فإن ثروة الآثار التي تكتنزها أراضينا المباركة ثروة غير ناضبة .. ثروة مستمرة ودائمة، ولذلك حتى تظل هذه البلاد المقدسة دولة تنعم بالخيرات والثروات حتى بعد عصر النفط وإلى ما شاء الله، فإن الأمر يحتاج إلى اهتمام واسع بتوقير واحترام الآثار وتكريم وتقدير التراث، لأن المنافسة في السوق العالمي للسياحة لم تترك الأمور للعفويات التي ندير بها ثرواتنا التراثية، فإذا كانت أراضينا تنعم بآثار الحضارات الخالدة، ولدينا تراث يعبر عن الحضارات التي سادت ثم بادت في أرض الجزيرة العربية، فإن الكثير من الدول تنعم أيضــاً بآثار حضارات غابرة ضاربة في أعماق التاريخ الإنساني البعيد، والتنافس بيننا وبينهم على أشده.
ولكن رغم أن دول العالم لديها منشآت ثقافية كالمتاحف وبيوت الثقافة والأكاديميات الثقافية ودور المسرح والسينما والمكتبات العامة، فإن المنشآت الثقافية في بلادنا لا وجود لها، وهذا شيء يحز في النفس وهو مؤسف للغاية.
إن رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار وهو من الكفاءات السعودية التي نفخر بها .. يجب أن يجد المساعدة من كل مسؤول ومن كل مواطن سعودي لتعظيم الثروة التراثية التي تمتلكها بلادنا، ولا يجب أن نترك رئيس الهيئة العامة وحيداً يغرد في الأطلال، بل يجب أن يلمس الأمير المتحمس أن كل مواطن سعودي يقف معه لتطوير ثروة تراثية تحتاج إلى استثمارات هائلة، وتحتاج ــ قبل ذلك ــ إلى جهود بشـرية خارقة.
والواقع إن موقع جدة التاريخي لم يصل إلى القائمة العالمية بسهولة، فقد سبق وأن حاولت الهيئة، ولكنها أخفقت، ويومذاك كان يتعين على الهيئة أن تغير استراتيجيتها وتنظم جهودها على أساس الشراكة المجتمعية ودعوة كل الأطراف ذات العلاقة بالمساهمة في تأهيل الملف الذي يحتاج بالفعل إلى شراكة فاعلة وفعالة، ولاشك فإن أمانة مدينة جدة كانت وستظل من الأطراف الرئيسة التي تلعب الدور المهم لتمرير ملف الوصول إلى العالمية.
إن هذا الحدث اللافت يمثل إقراراً عالمياً بالقيمة التاريخية الكبيرة لهذا الموقع الأثري العالمي وإبرازاً للمكانة التاريخية للمملكة وما تزخر به من إرث حضاري كبير، ونعلم بأن المملكة قدمت في ملف الترشيح خطة متكاملة لإدارة الموقع وحمايته وتأهيله وشرعت الهيئة في تنفيذ ذلك على أرض الواقع، ولا مراء أن المملكة تملك من المقومات الحضارية والتاريخية ما يستوجب نقل هذه الثقافة والحضارة إلى العالم والتفاعل مع كل الحضارات العالمية لكي تصبح المملكة مساهماً رئيساً في بناء الحضارات الإنسانية.
وفي غمرة الفرحة بوجود ثلاثة مواقع في قائمة التراث العالمي يجب أن نعترف بأننا نعاني من مفاهيم مضللة عن الآثار، ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى توعية مجتمعية تستهدف توسيع مفاهيم السياحة والآثار ليس باعتبارهما كازينو ومقهى وتزجية فراغ، ولكن السياحة والآثار من المشاريع الحضارية التي تتنافس عليها كل دول العالم في عصر العولمة.
وهنا تثار نقطة مهمة وهي أن الفائدة الأهم من الانضمام للائحة التراث العالمي هي دخولنا في جماعة دولية تقدر وتهتم بالممتلكات الآثارية العالمية، لإيمانها بأنها تجسد نموذجاً بارزاً للتنوع الثقافي في تاريخ التعددية البشرية، يضاف إلى ذلك أن تسجيل المواقع الآثارية في لائحة التراث العالمي يلزم المنظمة الدولية بتوفير أي احتياج أو مساعدة قد نحتاجها لإصلاح الأضرار التي قد تنجم عن أي كارثة طارئة، كما أن خبراء الآثار العالميين ملزمون بتقديم المساعدات والتدريبات الفنية لكوادر الدولة العضو في المنظمة الدولية.
ولعلها مناسبة طيبة أن نشـيد بالجهود التي بذلت من قبل كافة السعوديين لاختيار (واحة الأحساء) ضمن عجائب الطبيعة السبع في العالم، ولكن كنا ننتظر من الهيئة العامة للآثار جهوداً أكبر كي تفوز أو ــ على الأقل ــ تحقق واحة الأحساء مرتبة أكثر تقدماً في المنافسة على أحد المراكز السبع على مستوى العالم.
إن بلاداً فيها مكة المكرمة والمدينة المنورة بآثارهما الإسلامية الخالدة، وفيها اليمامة بمضاربها الثرية، وفيها واحات الأحساء، وأسواق العرب، وجبال السودة وقرى الباحة .. لا يمكن أن تكون كل هذه الكنوز من الآثار بعيدة عن قائمة التراث العالمي.
إن المنافسة بين الدول على جذب السائح لم تعد أمراً سـهلاً، بل أصبحت المنافسة على استقطاب السياح في سوق السياحة العالمية شديدة وقوية، فالسياحة ليست تمشيات وفسحا وحسب، بل هي صناعة وتسويق ومنافسة عالمية ضارية، ونعرف أن موارد السياحة لدى كثير من الدول في أوروبا وفي منطقتنا العربية .. تعتبر المورد الرئيس لدخلها القومي، ونحن بدورنا يجب أن نسعى لكي تكون إيرادات السياحة مورداً من الموارد الرئيسة لدخلنا الوطني.
ولكن ــ للأسف ــ فإن مشاريع الهيئة العامة للسياحة مشاريع متواضعة قياساً بما سمعنا ورأينا عن المشاريع الآثارية التي تنفذها الدول المتقدمة وبعض الدول النامية، وأقول دون رياء: يجب أن نغتنم فرصة وجود الأمير سلطان بن سلمان على رأس هذا الجهاز ونعطيه ما يحتاج من دعم مالي وإداري وأدبي حتى يستطيع أن ينفذ أكبر قدر من مشاريع كنوزنا الآثارية، كذلك فإننا يجب أن نغتنم فرصة الوفرة المالية ونعتمد تنفيذ أكبر قدر من مشاريع بناء المنشآت الثقافية والحضارية التي نأمل أن تضعنا في قلب المنافسة في سوق السياحة العالمية.
إن الاهتمام بالاستثمار في ثرواتنا الآثارية يعتبر خياراً استراتيجياً ووطنياً، لأن المواطن السعودي بات يسأل عن وضعه الاقتصادي بعد عصر البترول، ويتساءل إلى أين سوف يأخذه اقتصاده الوطني بعد انتهاء عصر النفط، هل سيعود القهقرى فقيراً إلى حيث كان قبل عصر البترول، أم أن هناك ثروات أخرى سوف ينعم بها لتحافظ على مستواه الاقتصادي البترولي؟