رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


قيامة الصوم وقيامه

يختبئ في شهر الله قيامة قلب، وقيام عبد، وصومه لله الواحد الأحد وحده، ربما كانت الغفلة عن الله في كل قلب عميقة الأسباب، بعيدة الجذور "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ" الحشر: 19. ولن تعرف دلالة نسيان نفسك إلا بعد أن يغمرك حس اليقظة، وغمرة القرب، وغمرة النجوى، ذاك الشعور العظيم الذي يتصاغر دونه الحس والجسد والشعور كله.
يأتي شهر الله بقدرته الروحية الفريدة التي تجعل النفس تتوحد معه حتى العاصية منها، حتى الضالة، حتى المظلمة بإثمها، حتى الشاردة عن راعيها وباريها ورازقها الرحمن الرحيم عليها. غسق دائم يتجلى عليه "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..".
كان مني تعمد الاختيار لكلمة - القيامة - هذه الكلمة هي المفردة التي تُنشئ فينا حساً غامضاً ونقياً وطاهراً بغزارة الوجود وقصره، بقيمة الحياة، وضآلتها، وضعف الإنسان، وعظمة خالقه.
عبارة تفتح وعيك على كل هذه التناقضات، وتستوعب كل شيء، وتبلغ بقلبك مفارقتها الأخيرة والتامة والكاملة، أن نفسك مهما كانت، وبعد كل الذي ملكت، وبعد كل الذي أحبت، تعيدك قيامتك إلى نقطة الفقر الأولى التي أتيت منها، وإليها تعود "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز".
تجد نفسك في تلك القيامة أمام الحقيقة الوجودية الكبرى التي لا يجهلها أحد " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار". أنت إذا لم تكن تملك شيئاً، وكنت فقيراً طيلة الوقت وكنت محتاجاً دائماً، وإن أول عتبة القيامة القبر تساوي بصدق بين الفقير العاني، وصاحب الصولجان، متجاوران لا يختلفان في العوز والعدم والضعف. ووظيفة رمضان هي ذات وظيفة القيامة، أن يطويك على ربك، بكل تناقضاتك وبكل ما فيك من رؤية ذاتك، وغرورها. صورة الفقر، وأسمال القيامة، وعلائق التراب والطين، والعري المعنوي الظاهر تلك قصة من العسير على مقال أن يتكامل فيه كل أجزائها وشعورها. وهذا وظيفة رمضان في قيامته. إذ يردك إلى حرمانك من كل المتع المعتاد عليها، وظيفته أن يجعلك أقرب ما تكون إلى فقرك الحقيقي أمام ربك، وأمام الوجود كله المتفضل الله عليك به، دون سعي منك. وبهذا تصبح أكثر إدراكاً ويقظة بمن يتثنى طارداً بتثنيه حمض معدته وجوعها. وحين نصوم تتقلص حاجتنا وتتقلص معها العذابات التي يكلف إشباعها أو هكذا يفترض قبل أن نشوه حقيقته، ونطمس باطنه بكل الصوارف والشواغل عن نفسك وربك.
(أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل الكرامة، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فأسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس حتى يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم فارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله - عز وجل - فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
يا أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم...) هذه كلمات رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في دخول شهر رمضان العظيم المبارك.
وهذا طريق لن تبلغ النفس آخره إن غاب عنها أوله، البصيرة بذاتها والوقوف على حقيقتها وضعفها وعجزها وحين ذاك تكون التوبة وتضع قدمها على أول خطوة في الطريق الطويل.
وأول يوم من شهر رمضان.. لعله يكون أول خطوة في طريق عودة القلب لله رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي