حصاة واحدة

الغراب طائر منبوذ، بالرغم من وجود صفات لا تجتمع في غيره من الطيور، فهو أكثرها حذراً، وأكثرها ذكاء وحيلة أيضاً.. وأبعدها ظهوراً أمام الغرباء في التزاوج.. يقال: إنه ضرب من سلوك الحشمة عنده..!
هذا الطائر الأسود الذي يأتي وصفه رسولاً من موت محتمل أو هو يرجوه لغيره، ويملك الفراسة لمعرفة ضحاياه المحتملين...! من غريب الحيلة عنده قاعدة "في كل مرة حصاة واحدة فقط".
حين يجد قارورة في أسفلها ماء لا يصل إليه لسانه.. أو فوهتها ضيقة عليه، ولأنه بالغ الحذر والتحفظ من الدخول في مغامرات غير مضمونة النتائج، بخلاف كثير منا، يتعرف على النتائج بعد أن يكون واحدا من ضحاياها..! يتأمل بنظر مهندس المساحة مقاس الحصاة التي تتلاءم مع فوهة القارورة، فيتولى غير بعيد يلتقطها بالحجم المناسب تماماً. ويلقيها في قعر الماء، فيتحرك الماء قليلاً ويرتفع إلى لسان الغراب قليلا جداً أيضاً، إلا أن الغراب من صفاته النفسية الصبر لا يتعجل النتائج..
هو على يقين أنها في الأخير سوف تأتي كما يريدها تماماً، كما يرغب في أن تكون.. ولذا لا يهمه كثيراً كم مرة سيطير، ولا كم حجر صغير سيجمع، ولا كم من الوقت سينقضي..! هو كائن موهوب بالتركيز على أهدافه، يعاود الفعل مرات كثيرة جداً ولكن بقاعدة "حصاة واحدة في كل مرة فقط".
وحين ينساه كل من حوله ظناً منهم أنه عبث من طائر منبوذ أسود يترقب بصبر ضحاياه، ويقتات بنهم على صيد غيره، يتوقف حين ذاك بهدوء يرتشف الماء العذب الذي رفعته الحصيات إلى لسانه حتى يرتوي ظمؤه.
الغراب يُعلمنا مجدداً بعد أن علمنا كيف نواري بعضنا بعضاً. فكثير من قناعات الرأي العام في العالم العربي تتكون بقاعدة حصاة واحدة في كل مرة.
لا يجلس الناس من النوم ليجدوا قناعات تامة وكاملة تنتظرهم، بل هي تتراكم، تتكون من جزئيات صغيرة، ومتباعدة، إلا أنها متكررة ومتوالية وصبورة. وهذا ما يمكن تسميته بصناعة الثقة في شيء ما أو انتزاعها منه. خبر صغير جداً عن إنسان أو سلعة أو مكان يتكرر.. يتعاقب.. يتوالى بصبر يكون قناعتك الأخيرة بالتسليم أنه جيد على نحو يقترب من اليقين. ولو بالإيحاء النفسي، ولو بخداع الذات، ولو بسلب القدرة على اكتشاف الجزء السيئ منه، أو ربما سلب القدرة على اكتشاف أنه بالحد الأدنى ليس أفضل وأنه مساو تماماً، وليس أكثر. هذه هي سياسة حصاة واحدة في كل مرة والغراب الصبور.
الزوجة التي تستقبل في كل مرة نقداً صغيراً يتكرر في مواقف صغيرة، يتراكم في النفس، مسقطاً شعورها بالرضا عن نفسها، ثقتها بنفسها، ضياعها عن ذاتها. وحين يفيض الغضب لا يسكن إلا بالطلاق. يندهش الرجل أن المشكلة كانت بسبب قوله إن الوجبة الأخيرة كانت مالحة جداً..! في الواقع كانت هي الحصاة الأخيرة التي بها رفعت الغضب في نفسها إلى لسان المشكلة.
كثيرون من الأبناء دمرنا فيهم المتنبي الشاعر، والعقاد المفكر، وأدونيس المتأمل، وجعلناهم يجدون ذواتهم في الفرصة الوحيدة المتاحة أمامهم الجريمة والتفحيط والتمرد وانعدام الحس بالمسؤولية من خلال شتيمة واحدة كل يوم، ونقد صغير كل صباح متوال حتى يعجز الغضب عن الرجوع إلى قاعه مرة أخرى.
كذبة واحدة في كل مرة من متطرفي الشيعة، تقابلها كذبة من متطرفي السنة، سيجد المجتمع نفسه قد غرق في كراهية طائفية يمور بعضهم في بعض كما يمور الماء من حصيات الغراب الصبور!
وفي كل مرة سخرية حامضة على مقدس من مقدسات المسلمين، حجر صغير في كل مرة، حتى يغرق جيل كامل هش الثقافة، رقيق الحصن في إلحاد لا يعرف بالضرورة سببه ولا يملك القدرة على تبريره بأكثر من حصيات الغراب الصبور ..!
أبحث عن الغراب الذي يتربص بضحاياه.. ولا تغفل عن حصياته الصغيرة المتكررة الصبورة في السياسة والاجتماع وحياتك الخاصة أيضاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي