الريادة الاجتماعية .. «البانقا» غيرت العالم
على الرغم من مخاطر الرحلات البحرية في البحر الأحمر، إلا أن رجال البحر المخضرمين دائما ما يذكروننا بنعمة الفايبر جلاس، تلك المادة التي جعلت الحركة على سطح الماء أكثر رشاقة ومنحت قواربهم الصغيرة سرعة الهرب من العواصف والمخاطر. السنابيك والقوارب الخشبية القديمة كانت بطيئة وثقيلة، حيث تحتاج إلى مقدار أكبر من الحنكة والخبرة لتتجاوز مخاطر رياح "الأزيب" أو غيرها مما قد يفاجئ البحّار بين الأمواج.
في بداية السبعينيات الميلادية، اجتمعت جهود البنك الدولي وشركة ياماها اليابانية لزيادة إنتاج صيادي المكسيك وتوفير أهم متطلباتهم - قوارب عملية متدنية التكلفة تعينهم على الصيد بكفاءة. استمر العمل على مراحل، وخرجت الجهود بتصميم قوارب "البانقا" – تسمى أحيانا القوارب الشعبية - التي انتشرت في كل سواحل العالم الدافئة والفقيرة. من شواطئ الفلبين حتى السنغال والبرازيل، وتكاد تكون الوسيلة البحرية الأهم في مناطقنا، فهي موجودة في البحرين ومسقط ورابغ وجازان وبقية المدن والقرى البحرية.
يقوم تصميم قوارب البانقا على مبدأي الكفاءة والمرونة، خدمةً للمستفيد الأول، أي الصياد. يُصنع جسد القارب من مادة الفايبر جلاس المطعمة بالقليل من الخشب لتقليل الوزن حتى تتمكن المحركات الصغيرة من دفعه باقتدار، وبتكلفة معقولة. وأما مقدمته فهي مرتفعة نسبيا لصد الأمواج والمساعدة على رفع الشباك الصغيرة، مع قاعدة منبسطة تمكن القارب من الوقوف في المياه الضحلة أو حتى فوق رمال الشاطئ. الميزة الأخيرة كانت ضرورية لأن هؤلاء الصيادين لا يملكون مراسي بحرية مؤهلة مثل نظرائهم في الدول الغربية في ذلك الوقت – وهذا لا يزال واقعا حتى اليوم.
تطور هذا النموذج على مدى السنوات السابقة وتسابقت آلاف المصانع لتقليده واستثماره، وأصبح يُصنع اليوم بأشكال عدة محليا وخليجيا وعالميا. ولكن يظل عند كبار السن وصيادينا المخضرمين تقديرهم الكبير للنموذج الأول حتى أنني أعرف من يتغزل دائما بـ "ياماها أبو صدر" إشارة إلى ذلك القارب الذي كان ابتكار العصر في تلك الحقبة، حين أخذ كل الأضواء التي كانت تنالها القوارب الخشبية الصغيرة، التي يصعب التعامل معها.
يمثل هذا المنتج، الذي غير حياة الملايين، صورة من صور الريادة الاجتماعية التي تقوم على أساس ربحي – مقارنة بنماذج الريادة الاجتماعية الأخرى. عندما اجتمعت الحاجة المحلية الماسة واهتمام المسؤولين المكسيكيين في ذلك الوقت مع أموال البنك الدولي وابتكار مهندسي شركة ياماها، استفاد العالم كله. وللعلم، لا تزال القروض المحلية – عن طريق صندوق التنمية الزراعية - تمنح للصيادين لتملك هذه القوارب بنماذج دعم الصيادين المنتشرة حول العالم نفسها، غير أن الكثير منها كان يستغل لاستخراج تأشيرات العمالة – مع الأسف!
لم تكن أعمال شركة ياماها في هذا المشروع عملا خيريا مجانيا، بل كان بيع القوارب تسويقا لمحركاتهم في الأساس. غير أنهم اهتموا بإضفاء القيمة للعميل، العميل الإنسان، وسخروا قدرات مهندسيهم لابتكار يتنفع به الصيادون حتى خارج اليابان، فأصبحت العوائد مضاعفة للجميع.
محليا، لا تزال الريادة الاجتماعية في مرحلة مبكرة وهشة جدا، ولن تكتمل إلا بمشاركة القطاع الخاص الذي يقدم ما لديه لصنع القيمة. وهذا لا يحصل بالاستفادة من الدعم فقط أو برامج المسؤولية الاجتماعية المؤقتة، بل بدمج ثلاثي الدعم والعمل الجاد وحاجة العميل الحقيقية. أخص بالحديث شركاتنا الكبرى التي نعلم أنها تستطيع "ماديا" تطبيق الريادة الاجتماعية بكل أشكالها، لكننا لا نعلم شيئا عن استطاعتها الفنية أو المعنوية، ولن نعلم حتى نرى ذلك على أرض الواقع.
الواقع المحلي لحياة الصيادين وقواربهم لا يزال هشا كذلك، فبرامج الدعم مستغلة والمرافق غائبة حتى أن البعض يفضل أن تعطيه سمكة على أن تعلمه الصيد! مراسي الصيادين في كل مدن المملكة بلا استثناء في حالة يرثى لها، والعقود الأخيرة لتشغيل المراسي أوجدت رسوما للإيجار من دون تطوير حقيقي، ما زاد التكلفة على الصيادين.
لا يختلف واقع قوارب "البانقا" في شواطئنا المحلية عن وضعها كثيرا حينما وصلت في منتصف السبعينيات، وهذه هي النهاية "غير السعيدة" للريادة الاجتماعية، عندما نستفيد من مخرجاتها في المرة الأولى فقط ونفشل في إعادة طرحها أو تطوير نموذجها بما يناسب عالمنا وواقعنا.