مصاعب الحياة بعد التقاعد .. ما الحلول؟
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي الوضع المتردي الذي وصلت إليه شريحة كبيرة من المتقاعدين وكيف أنهم يواجهون المصاعب المالية والأزمات المعيشية. وعند دراسة أوضاعهم من قبل بعض الجهات والمؤسسات البحثية تبين أن السبب الجوهري يعود لتهاونهم في تنمية مصادر أموالهم منذ بداية حياتهم الوظيفية حينما كانوا شبابا يافعين.
وقد ختمت المقال بطلب للجهات المعنية بزيادة استثنائية للمتقاعدين لتعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم نتيجة الجهل بإدارة أموالهم الشخصية وعدم اكتراث قطاعات الأعمال بهذا الجانب كما طالبت بتثقيف مالي للموظفين الذين ما زالوا على رأس العمل حتى لا يُعيد التاريخ نفسه ونجد أمامنا مجموعة من المتقاعدين الفقراء البؤساء الذين اجتمع عليهم الفقر والمرض والعوز في أرذل العمر.
قبل أن يبدأ الموظف في استخدام آليات تنمية أمواله الشخصية يجب أن يعرف المعنى الحقيقي للمال، فالناس يختلفون في نظرتهم إلى المال. البعض يرى أن المال لم يوجد إلا لإنفاقه وتبديده والاستمتاع به وينظر هذا الصنف إلى من يرشد استهلاكه وينمي مدخراته أنه ضرب من الجهل فكيف يكنز من الأصل فيه التبديد والإنفاق. صنف آخر يرى أن المال يجب أن يكنز وأن يدخر وألا ينفق منه إلا النزر اليسير وفي الضروريات وأن من الحكمة حفظ المال وكنزه وتنميته ويرى هذا الصنف أن من يبدد ماله ما هو إلا جاهل أحمق يحتاج إلى رعاية ويجب وضعه تحت الوصاية.
وكلا الفريقين بعيد عن الفهم الحقيقي لوظيفة المال. فالمال وسيلة لتحقيق الغايات السامية إلا أنه مهم ومهم للغاية. هناك أشياء كثيرة في حياتنا مهمة للغاية بل ضرورية إلا أنها ليست هدفا في حد ذاتها ولا غرضا نعيش من أجله. فمثلا الطعام والشراب والهواء جميعها أمور في غاية الأهمية بل ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها ولا يستطيع العنصر البشري أن يعيش دون أن يأكل أو يشرب أو يتنفس، وإذا نقصت مثل هذه الأمور فإن الإنسان يفقد توازنه وتتعرض حياته للخطر ورغم هذا ليس الغرض من وجودنا في هذه الدنيا الأكل والشرب فهناك غاية عظمى ورسالة أسمى نسعى للوصول إليها ألا وهي عبادة الله سبحانه وتعالى. وهذا الفكر ليس حكرا على المسلمين فأتباع الديانات والأنظمة الوضعية ترى وتؤمن بأن وجودها في هذه الحياة ليس للأكل والشرب. فالبعض يرى أن الإنتاجية غاية وجوده والبعض الآخر يرى أن الغرض من خلقه عمارة الأرض وهناك معتقدات ترى أن وجود العنصر البشري مرتهن برضا الطبيعة عنه وهكذا. ورغم أن الأديان والمعتقدات تتباين في الغرض من الوجود إلا أن جميعها متفقة أن الحاجات الأساسية من أكل وشرب ليست بالفعل غرضا يستحق العيش.
ولو طبقنا هذه الفكرة في نظرتنا إلى المال لوجدنا أن المال غاية في الأهمية كالمأكل والمشرب ويجب أن نسعى إليه ونخطط للظفر بأكبر قدر ممكن منه وأن نتعرف على آليات إدارته واستثماره وتنميته ولكنه في حد ذاته ليس غرضا يجعلنا نعمل ليلاً ونهارا من أجله ونشقي أنفسنا ونقطع أحبتنا. ولهذا ينصح منظرو المال والأعمال وخبراء تنمية الأموال الفردية أن يتوقف الفرد عن الاستثمار برهة ويعود إلى نفسه فيكافئها مما أفاء الله به عليه فعندما يكمل مشروعا استثماريا يعود عليه بشيء من المال فليكرم نفسه وأهله حسب إمكاناته بالتخطيط إما برحلة استجمامية أو أن يبتاع سكنا كبيرا أو سيارة فارهة أو غيرها ويترك الموضع لتقديره. ونريد أن نخلص من هذه النقطة فنقول: إن المال وقود الحياة ومن يملك المال يملك القوة ويملك أسرار اللعبة وهو الذي يحدد البداية والنهاية إلا أنه لا يعد غرضا يستحق العيش من أجله.
وطالما أن المال بهذه الأهمية فينبغي أن نتعرف نحن معاشر الموظفين على أسرار الحصول عليه دون أن نخل بأعمالنا ونستنفد قوانا. فالمال وإدارته علم له أصوله وأساسياته ونظريات وهو يحتاج بالفعل إلى دورات مكثفة، وقراءات معمقة، ومناقشات مستفيضة، وسؤال أهل الخبرة والمعرفة فليس من الحكمة أن يتقاضى الموظف راتبه باليد اليمنى وينفقه بالكامل باليد اليسرى فهناك آليات للإنفاق والاستثمار. وقبل أن تنطلق أيها الموظف في التعرف على أسرار إدارة أموالك الشخصية هناك حقيقة يجب ألا تغيب عنك. يجب أن تعرف أن قطاعات الأعمال - الحكومية والخاصة - ومنها أيضا أرباب الأموال والمؤسسات المالية من بنوك ونحوها يهمها كثيرا أن تبقى أيها الموظف جاهلا بكيفية إدارة أموالك الشخصية، فمن مصلحة هؤلاء ألا يعرف الموظف كيف ينفق ماله وكيف يحسب مدخراته وكيف يوجه استثماراته. حتى الجهات الإعلامية والتعليمية مقصرة كثيرا في هذا الجانب. هل سمعت عن مؤتمر أو ندوة تهتم بإدارة الأموال الشخصية؟ هل تلقيت مقررا دراسيا يناقش كيفية إدارة الأموال الشخصية منذ أن كنت طفلا؟ هل هناك برامج إعلامية تستضيف خبراء الأموال يشرحون للناس كيفية إدارة واستثمار أموالهم كالأفراد؟ حتى المؤلفات والكتيبات والبروشورات لا يوجد فيها ما يروي النفس أو يقنع العقل. وهذا لا يقتصر على المؤسسات بل حتى الحكومات لم تبذل أدنى القليل في توعية الناس بكيفية إدارة أموالهم.
إذا: نستطيع أن نقول: إن هناك اتفاقا ضمنيا من أجل أن نبقى أنا وأنت موظفين مأجورين نعمل كالعبيد المسخرين منذ بزوغ الشمس حتى أفولها نمد أيدينا لجهات أعمالنا من أجل أن نحصل على الفتات ثم ننفقه بالكامل. لذا علينا أن ننطلق بذواتنا ونتولى نحن تثقيف أنفسنا من أجل الحرية المالية كي نستمتع بحياتنا كما نريد لا كما يريد أرباب الأموال والمؤسسات المالية وقطاعات الأعمال.