خيارات التعليم العالي
الكتابة عن إعداد الكوادر من خلال عملية التعليم العالي موضوع صعب؛ لأنه ينتهي بنقد على من نأمل منهم إعداد الكوادر في مرحلة حاسمة. على أثر كتابة عمود الأسبوع الماضي "التعليم العالي .. الإهمال المريح" جاء رد من أستاذ جامعي سابق حول الحاجة إلى طرح حلول عملية محددة، وليست مجرد نقد. هذا نقد مبرر، ولذلك أتقدم ببعض الاقتراحات المحددة، وربط هذه المقترحات مع حاجة المملكة لإحداث اختراق تنموي عامة واقتصادي خاصة. تنموي من حيث دور التعليم الشامل ودور القيادات التعليمية؛ واقتصادي من حيث دور تفعيل نماذج إدارية تناسب المرحلة، بما في ذلك من متطلبات فنية، وزيادة المساحة الإنتاجية من خلال مزيد من الانكشاف في المجتمع. الانكشاف يقرب المسافات المعنوية والعملية. نقطة البداية هي إعداد الكوادر القيادية أكاديميا.
نحن اليوم نغرق بين التسطيح الأكاديمي والضعف العملياتي. لكي تكون الخيارات شاملة لا بد من سعة أفق نستطيع بها قطع المسافة بين المعنوي (القاعدة الفكرية) والمادي (الخطوات العملية). إقناع عامة المتعلمين وحتى غير المتعلمين بجدوى التعليم متفق عليها، ولكن الخلاف على تقييم الجودة والعدالة في المسألة والدقة في المقارنة. الحلول العامة لا تكفي للمرحلة، ولذلك لا بد من حلول جزئية وأمثلة تربط بين هذه المحطات.
هناك اقتراحات كثيرة، ولكن سأكتفي بخمسة أمثلة تصب مجتمعة في الرغبة في الانكشاف والإنتاجية. أولها بما أن المملكة تتحمل مركزية فكرية دينية وسياسية، الأحرى أن تأخذ جامعة الإمام بالقيادة الأكاديمية، وتعيد النقاش الفقهي المعرفي المحتبس تاريخيا بين ابن رشد (مدرسة العقلانية التي أخذ بها الغرب)، والغزالي (المدرسة التدينية التي أخذ بها الشرق العربي الإسلامي)، وانتهى إلى ما انتهى عليه - جاءت في بالي هذه الزاوية الفكرية على أثر دعوة من مركز الملك فيصل للبحوث لمحاضرة من مستشرق حول تأثير الغزالي في الغرب. نقاش في الدوائر الأكاديمية يعمق المرجعية الدينية الفكرية للمملكة، ويبعث الحياة في جامعة أصبحت جامدة. المثال الآخر لا بد للوزارة من تغيير نهجها في التعامل مع طلاب البعثات، فلا يمكن المساواة بين من يدرس تخصص إنساني في جامعة متواضعة في أمريكا مع طالب يدرس هندسة في جامعة متقدمة رقابياً واستثمارياً. نظرة العدالة السطحية تدعوا للمساواة، ولكن معنى العدالة العميق يتطلب نظرة أخرى.
أحد أسباب هذا النشاز في التصرف يمكن تأويله إلى أنماط إدارية فاشلة التي منها تدريس اللغة في معاهد تجارية ضعيفة. الأحرى أن تصر الوزارة على اجتياز امتحان كفاءة اللغة في المملكة، وتفادي برامج اللغة المكلفة ماديا ومعنويا، بإمكان الوزارة التعاقد مع معاهد داخلية. اقتراح آخر أن تشكل الوزارة فريق عمل للبحث عن أفضل الطلاب لمساعدتهم وتوجههم إلى الجامعات والأقسام المتميزة حسب التخصص حتى لو امتدت البعثة لسنة إضافية. مثال آخر يأتي في التواصل مع السلطات التعليمية البريطانية خاصة (حيث إن الجامعات البريطانية حكومية) لوقف النزيف المتمثل في تخريج حملة دكتوراه دون عمل أكاديمي مضنٍ أو جهد واضح، إذ إن هناك مدخلا استغله الكثير من خلال بحث سريع دون امتحانات شاملة للحصول على الدكتوراه. سؤال مباشر لعينة من هؤلاء سيعلم الوزارة الكثير عن الجودة. مثال أخير، هناك حاجة لأن تبدأ الجامعات السعودية في درجة من التخصص، لا يمكن للجامعات أن تقدم تعليما بجودة مقبولة لكل تخصص.