التيسير الكمي وفقاعة الأسهم الأمريكية
تشهد أسواق الأسهم الأمريكية ارتفاعات متتالية وأرقاما تاريخية جديدة في عدد من المؤشرات، أهمها مؤشر داو جونز الذي تجاوز 16,700 نقطة لأول مرة في تاريخه، ومثله كذلك مؤشر إس آند بي 500 الأوسع نطاقاً والذي بدأ يقترب من 2000 نقطة. بشكل عام أخذت الأسهم الأمريكية بالارتفاع أشهرا قليلة بعد وقوع الأزمة المالية في تشرين الأول (أكتوبر) 2008، حيث وصل داو جونز إلى 6,600 نقطة في أوائل 2009، ومن ثم بدأ بالصعود القوي حتى الآن.
ارتفاع الأسهم الأمريكية فاجأ كثير من المتابعين، حتى كبار المحللين والاقتصاديين، حيث كان من المتوقع أن يكون للأزمة المالية أثر سلبي كبير في شتى المجالات الاقتصادية، نتيجة ارتفاع البطالة وانخفاض مستوى الاستهلاك وإفلاس عدد من الشركات والبنوك. ثم أتى تدخل البنك المركزي (مجلس الاحتياطي الفيدرالي) من خلال ضخ سيولة كبيرة في الاقتصاد، كقرار استباقي لتجنب الوقوع في كارثة اقتصادية كبرى، وهذا بلا شك ساعد بشكل كبير على تعافي الاقتصاد الأمريكي، غير أنه كان من الممكن والمتوقع من قبل البعض أن يؤدي ذلك التدخل إلى تضخم حاد في الأسعار وهبوط شديد للدولار الأمريكي مقابل العملات الرئيسة. ولكن على العكس من ذلك، لم يحدث أي تضخم يذكر على مستوى الأسعار للسلع الداخلة في مؤشر أسعار المستهلكين، ولم ينخفض الدولار الأمريكي! فلا يزال معدل التضخم في حدود 1,50 إلى 2 في المائة (بلغ 2 في المائة لشهر أبريل الفائت)، ومؤشر الدولار الأمريكي خالف كل التوقعات بارتفاعه من مستوى 70 نقطة وقت الأزمة إلى قرب 90 نقطة لاحقاً، وهو الآن في حدود 80 نقطة، بينما كان هذا المؤشر في نزول حاد ومستمر في السنتين ما قبل الأزمة!
لماذا لم يتعرض الاقتصاد الأمريكي لتضخم حاد في الأسعار كما هو متوقع؟ ولماذا لم يتأثر الدولار الأمريكي نتيجة الطباعة المستمرة للدولار؟
تضخم الأسعار وهبوط الدولار هما ما نتوقعه في حال قيام البنك المركزي بقذف كميات كبيرة من النقود في قلب الاقتصاد، كون القوة الشرائية للعملة تضعف بسبب كثرتها في أيدي الناس. إذاً السؤال هل ما يقوم به البنك المركزي بالفعل طباعة دولارات، وأين ذهبت هذه الدولارات؟ الحقيقة أن البنك المركزي لا يطبع دولارات ورقية ولا عملات معدنية، كون ذلك من مهام وزارة المالية الأمريكية، إضافة إلى أن حجم العملة الورقية والمعدنية ضئيل جداً مقارنة بحجم النقود الكلي، أو ما يسمى العرض النقدي. فنجد أن حجم العملة الأمريكية المتداولة في جميع أنحاء العالم حالياً نحو 1,2 تريليون دولار، مقابل 11,2 تريليون للعرض النقدي (ن2)، أي أن العملة الورقية من الدولار تعادل نحو 10 في المائة من إجمالي النقود. فعندما نقول إن البنك المركزي يقوم بطباعة الدولار فليس المقصود أن كمية الدولارات الورقية قد ازدادت، ولا أن عرض النقود قد ازداد، بل إن البنك المركزي قام، ولا يزال يقوم، بزيادة السيولة النقدية في القطاع المصرفي. هنا بيت القصيد، وهو أن السيولة النقدية تزداد داخل القطاع المصرفي، وليس بالضرورة خارجه، ولو أن السيولة النقدية التي يقوم البنك المركزي بضخها شهرياً في القطاع المصرفي وجدت طريقها إلى شعاب الاقتصاد المتنوعة، فسنجد بلا شك ارتفاعاً حاداً جداً في مستوى التضخم وكذلك هبوط شديد لسعر صرف الدولار.
لماذا لا تتجه السيولة التي يضخها البنك المركزي إلى الاقتصاد، وبالتالي تؤثر سلباً في التضخم وسعر صرف الدولار؟
السبب في ذلك أن زيادة السيولة تتم بطريقة معينة بحيث يقوم البنك المركزي بشراء السندات التي تصدرها الحكومة وكذلك سندات الرهن العقاري المتعثرة، ويقوم بدفع قيمها لملاك هذه السندات، الذين هم في الغالب بنوك ومؤسسات مالية كبيرة. غير أن هذه البنوك وبعضاً من المؤسسات المالية الكبيرة لا تقوم بصرف هذه المبالغ مباشرة في الاقتصاد، كون ذلك ليس من طبيعة عملها، فتقوم بإيداع المبالغ المتحصلة في حساباتها لدى البنك المركزي، إلى أن تحتاج إليها في تقديم القروض للأفراد والشركات فتقوم بالسحب منها. بدأ البنك المركزي في عام 2008 بدفع فوائد على المبالغ التي تودعها البنوك في البنك المركزي، ما يؤدي - وإن جزئياً - إلى تعويض البنوك عن السيولة المركونة لدى البنك المركزي. لا يمكن أن يحدث تضخم في الأسعار طالما أن السيولة الضخمة باقية لدى البنك المركزي. ولا يمكن لسعر صرف الدولار أن ينخفض طالما أن كمية الدولارات في الاقتصاد لم ترتفع بشكل كبير. إذاً ما نراه حالياً من غياب لآثار التضخم سببه عدم تسرب كميات كبيرة من تلك السيولة المهولة إلى الاقتصاد (لعدم الحاجة إليها!). وعلى الرغم من ذلك، هناك كميات كبيرة من هذه السيولة وجدت طريقها إلى سوق الأسهم، فأحدثت ارتفاعات متتالية في أسعار أسهم الشركات، حيث يتم ذلك عندما يقوم بعضاً من هذه البنوك والمؤسسات المالية بتوظيف جزء من السيولة المتوافرة لديه في سوق الأسهم، كبديل للإقراض المباشر للأفراد والشركات. كذلك جزء من السيولة يتجه لسوق السندات، فيتسبب في زيادة أسعار السندات وبالتالي انخفاض العائد عليها. لا يزال سعر الفائدة على السندات الحكومية قليل جداً، حالياً يقف العائد لسندات عشر سنوات عند فقط 2,5 في المائة. لو لم يكن هناك شراء لهذه السندات - سواء من قبل البنك المركزي نفسه الذي لا يزال يشتري منها بمقدار 25 مليار دولار شهرياً، أو من قبل مختلف المؤسسات المالية - لما استمر سعر الفائدة عند هذه المستويات المتدنية. والحقيقة أن البنك المركزي يصيد عصفورين بحجر واحد عندما يقوم بضخ السيولة الشهرية البالغة نحو 85 مليار دولار، حيث إن ذلك يرفع من السيولة النقدية في المصارف، بهدف دعم شتى مناحي الاقتصاد، وكذلك يؤدي إلى استمرار أسعار الفائدة عند مستويات متدنية. بل إن ارتفاع الأسهم جراء ذلك يعد عصفوراً ثالثاً، كون ارتفاع الأسهم ينتج عنه ما يعرف بظاهرة الثراء، التي تجعل الأفراد يشعرون بالأمان ويرفعون من مستوى الصرف والاستهلاك، مما يحرك الاقتصاد ويخفض من مستوى البطالة.
ختاماً، النتيجة الظاهرة لعمليات التيسير الكمي، أي شراء البنك المركزي لأنواع متعددة من الأصول، بما فيها السندات التي تصدرها الحكومة الأمريكية، هي أن خزائن البنوك مليئة بالنقد، وأن العملية مجرد استبدال أصول مملوكة للبنوك والمؤسسات المالية بمبالغ نقدية جاهزة للاستخدام كقروض أو لاستثمارها من قبل البنوك. جزء من هذه السيولة وجد طريقه إلى سوق الأسهم فارتفعت أسعار الأسهم بشكل كبير ومخيف، وجزء اتجه إلى أسواق السندات فأدى إلى انخفاض مستويات الفائدة، وقليل جداً اتجه إلى قلب الاقتصاد، مما جعل تضخم الأسعار يبقى تحت السيطرة، وسعر الدولار عند مستويات معقولة. إلى متى سيستمر الوضع بهذا الشكل؟ وهل ستكون هناك فقاعة كبيرة في أسعار الأسهم؟ ثم ماذا سيحدث في مستوى الأسعار عندما يكون هناك طلب كبير على السيولة المختبئة في قائمة المركز المالي للبنك المركزي؟