يا ديوان المراقبة: ما قصدت إلا الإصلاح
قبل سنوات، وفي سلسلة من المقالات ناديت بضرورة تطوير ديوان المراقبة العامة وتطوير أدواته وتعزيز استقلاله، ومع الأسف الشديد كان أول من هاجمني ورفض طرحي هو ديوان المراقبة العامة نفسه، الذي جاء رده بعنوان "انطباعات الكاتب لا يؤيدها دليل من الواقع"، الذي نشرته الاقتصادية في العدد رقم 6698 بتاريخ 12 شباط (فبراير) 2012م، وقال ضمن اتهامات عديدة لي إن لدي قناعاتي الخاصة، ورؤيتي المختلفة عما يراه المختصون في هذا المجال من الخبراء المشهود لهم الممارسين لهذه المهن، وكأن لسان حالي يقول "وإني وإن كنت الأخير زمانه .. لآت بما لم تستطعه الأوائل". وهو ما كان يأسف له الديوان "حقاً". كما أحيل القارئ الكريم إلى ما كتبه الأستاذ عوض الله الرحيلي المشرف العام في ديوان المراقبة العامة الذي نشرته الاقتصادية بتاريخ 18 نيسان (أبريل) 2008 في العدد رقم 5303 كرد على أحد مقالاتي هو يقول إن "ديوان المراقبة" يستند إلى أنظمة واضحة. ودوره يتعدى التسمية، ومما قاله في معرض الرد إن آرائي غير علمية، بل مجرد انطباعات شخصية. أخيرا أحيل القارئ الكريم إلى مقالي قبل عدة أسابيع، الذي كان يهدف أيضا إلى دعم أعمال الديوان، وجاء فيه طلب بإنشاء مجلس أعلى للرقابة.
من المناسب جدا بعد كل هذا النقاش الذي امتد سنوات عديدة، وبعد كل الاتهامات التي وصلتني من الديوان أو من غيره، أن يأتي مجلس الشورى ليؤكد كل ما سبق وتحدثت عنه، ويطالب بالمطالب نفسها التي طالما طالبت بها، ومن ذلك أن يتفهم الديوان دوره الواجب، وأن يتجاوز قضايا العقود والمالية ليشمل الخطط والبرامج والاستراتيجيات لجميع الجهات الحكومية للتحقق من استخدام الموارد المالية والبشرية في الأنشطة والمهام المنوطة بها بأعلى قدر من الكفاءة والفعالية والاقتصادية. ولعل أهم ما جاء في طرح أعضاء مجلس الشورى خلال الأسبوع الماضي (وهم نخبة من الخبراء) ملاحظتهم على تكرار المعوقات التي تواجه الديوان منذ أعوام، واستدل بعضهم بعدم فاعلية ملاحظات الديوان نفسها، وأن الأرقام هي نفسها المقدمة في التقرير الذي سبق، وهذا يدل دلالة واضحة على أنه لا يوجد أي تحسن في الدور الرقابي للديوان، وأنه ليس له أي مفعول".
هنا أعود لأسأل الديوان: هل كانت مقالاتي مجرد انطباعات شخصية، وأن رؤيتي مخالفة لما عليه الخبراء والمختصون. وخاصة أن تقرير ديوان المراقبة العامة الذي ناقشه مجلس الشورى خلال أعمال الأسبوع الماضي (وفقا لما نشرته الاقتصادية من مداخلات الأعضاء)، يعترف بكل ما كنت قد شرحته من قبل، فالديوان نفسه يؤكد أنه يواجه معوقات تتمثل في عدم تعاون الجهات المشمولة برقابته في تقديم المستندات والبيانات والمعلومات التي يطلبها لتنفيذ أعمال المراجعة، وعدم الرد على ملاحظاته، وعدم تزويده بنسخ من العقود الإدارية فور إبرامها، وضعف الإمكانات المادية والبشرية لدى الديوان، وعدم تمكينه من ممارسة اختصاصاته بحرية واستقلال، وتقادم الأنظمة المالية وحاجتها إلى التعديل، وعدم الموافقة على النظام الجديد للديوان المرفوع للمقام السامي في عام 1418هـ أي منذ 17 عاما.
لست أكتب المقال انتصارا لنفسي أو لطرحي، بل فقط لأؤكد أن الهروب من المشكلات لن يقدم حلا لها، لكن فقط عندما نواجه الواقع بصدق وشفافية، كما أسعدني جدا أن أجد الكثير مما سبق وطرحته، وقد تبناه مجلس الشورى واقتنع به، لقد مضى وقت منذ آخر مقال كتبته عن الديوان، لكن أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أصلا. وليس الهدف من المقال هو تكرار ما سبق، بل التأكيد على أن المشكلة الأساس لم تحل بعد، وما زلت أقول إن مشكلة الديوان من شقين رئيسين هما ضعف أدواته وقدم المفاهيم التي يعمل من خلالها، وهذا الضعف عميق جدا، تأصل لدى العديد من الموظفين الذين فقدوا مع الزمان قدراتهم المهنية، ناهيك عن البيئة غير المحفزة التي يعملون بها، والتي تسببت أخيرا في تسرب العديد منهم وانتقالهم إلى هيئة مكافحة الفساد أو حتى الجهات الحكومية المختلفة والشركات التي باتت تبحث عن الخبرات في تخصص المراجعة الداخلية. وهنا يحتاج الديوان إلى نقلة واسعة في مفاهيمه، وأن يتخلص من كثير من الرواسب القديمة التي ورثها الديوان منذ عقود، ثم لم يستطع أن يتخلى عنها، وقد شرحتها بإسهاب في مقالاتي السابقة، أقول بضرورة هذا خاصة مع توجه إلى بناء نظام محاسبي حكومي جديد.
القضية الثانية هي عدم اهتمام الجهات الحكومية بملاحظات الديوان، واللامبالاة التي يواجهها الديوان في ذلك، وإذا أضفت إلى هذا أن استقلال الديوان ضعيف مقارنة بغيره، كما أن موارده المالية محدودة جدا، فإن كل هذا يزيد من ضعف الديوان بشكل جوهري، ويجعل أعماله بلا معنى تقريبا، ولهذا طالبت بحل جذري من خلال إنشاء مجلس أعلى للرقابة، كما طالبت بأن يصبح في كل جهة تخضع للديوان ومن بينها الشركات أن تنشئ لجنة للمراجعة الداخلية يكون الديوان عضوا فيها، ومن خلالها يتم دعم إدارة المراجعة الداخلية ودعم استقلالها ودراسة تقاريرها، وكذلك الإشراف على عملية تعيين المراجع الخارجي، ودعم استقلاله ومناقشة ملاحظاته وتحفظاته دون الحاجة إلى العودة لممارسة مهامه نفسها.