كيف ومتى تصبح العدالة مشوهة وعرجاء؟

العالم مملوء بالقضايا والمشكلات والحروب والمعارك. يتعارك ويتصارع الناس مرات حول ما نراه ضمن عيوننا أنه أتفه الأسباب، وتدخل الدول والمنظمات والمجتمعات في صراعات كثيرة ومتشعبة والكل يدعي الحق لنفسه، وقلما ترى أن شخصا أو مجتمعا أو منظمة أو دولة دخلت في صراع أو حرب أو معركة إلا وقالت إنها المُعتدى عليها.
والصراع اليوم له أشكال مختلفة وقلما يستطيع المرء حصره في قضية محددة واحدة، وذلك لتداخل عالمنا وتداخل المصالح، حيث لم تعد هناك مسألة يمكن حصرها بالسياسة والدبلوماسية، كل شيء أصبح متداخلا تتشابك فيه السياسة والاقتصاد والعسكر والصناعة والتجارة وغيرها كثير.
والصراع اليوم لم يعد محصورا بين المتصارعين. في قديم الزمان إن تحاربت قبيلتان في نجد لربما وضعت حربهما أوزارها بوصول أخبارها إلى الشام. اليوم كل صراع ومعركة وفي أي بقعة من العالم وحول أي قضية يدخل بيوتنا وعقولنا وقلوبنا رغما عنا ونشاهده وكأننا في ساحته ونحن بعيدون عنه مئات أو آلاف الأميال.
وتقريبا كل الصراعات التي تضرب عالمنا اليوم ــ وما أكثرها ــ يتمخض عنها إفراز واصطفاف، أي قلما تشاهد أو تقرأ أو تسمع أن الناس أو الدنيا بصورة عامة والمتطورة منها بصورة خاصة، تحاول تطبيق معايير العدالة للحكم عليها، أي أنها تقف إلى جانب المظلوم وتنهر الظالم. واليوم لا يضير كثيرا إن كان شخص أو مجتمع أو دولة تتبنى العدالة بمفهومها الإنساني أو حتى السماوي ما لم يكن لديها مكامن وإمكانات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية واقتصادية. وفي المنوال نفسه لا يضير كثيرا إن كان الذي يتبنى العدالة ضعيفا من النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية والصناعية والتكنولوجية، لأن تأثيره سيكون محدودا أو ربما معدوما.
انظر إلى أي صراع تدور رحاه اليوم عدا واحد منها سآتي إليه بعد قليل، وسترى فرزا واصطفافا واضحا في العالم، ولا سيما القوي منه، حيث يحاول جهده تطبيق ما يراه أنه العدالة بالقوة أو بالدبلوماسية أو بالاقتصاد (سياسات الحصار)، ودائما هناك نصوص (المعاهدات والمواثيق والمجتمع الدولي) للاتكاء عليها.
وهذا الموقف يظهر جليا إذا كان المعتدي قويا أو من المقربين أو من الذين لهم مصلحة لدى الأقوياء. أما المعتدى عليه الضعيف والمغضوب عليه من حيث العدالة الدولية العرجاء والمشوهة، تتم شيطنته بسرعة وينزل الأقوياء عليه غضبهم حمما وبراكين، ويجعلون، ليس منه كشخص، بل من عائلته وعشيرته ومجتمعه ودولته هباء منثورا.
إلى هنا أظن أن قسما كبيرا من القراء ــ وإن لم يتفق معي تماما ــ قد يرى أن هناك قدرا معينا من الصواب في الطرح. لكن القارئ اللبيب قد يقول وما الغاية من طرق موضوع كهذا لأن كلنا نعلم أن العدالة عرجاء ومشوهة في العلاقات بين الدول والمجتمعات والثقافات والأديان والمذاهب وحتى أحيانا بين الأفراد.
في أغلبية الصراعات التي تدور أمام أعيننا أرى شخصيا أن العدالة مشوهة وعرجاء إلا في قضية واحدة ألا وهي القضية الفلسطينيية. في كل الصراعات العدالة مفقودة إلا في الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني.
كان الكل سابقا يتصور أن العدالة في هذه القضية مشوهة وعرجاء. لا يا قرائي الكرام. العدالة كما يعرفها العالم يطبقها بحذافيرها في هذا الصراع. ميزان العدالة لم يكن عادلا في التاريخ مثلما هو في هذه القضية.
هل بإمانكم تخيل ذلك؟ سأساعدكم.
هل رأيتم رئيس دولة أو مسؤولا أو عالم دين أو وفدا أو شخصية مهمة في العالم باستطاعتها التأشير إلى المعتدي والمعتدى عليه بوضوح في هذه القضية؟ صار من الصعب اليوم الوقوف علنا وقول الحق في هذه القضية، بينما بإمكانك فعل ذلك في أي قضية أخرى، والسبب لأنه عليك في أقل تقدير أن تكون عادلا، أي تساوي بين الفلسطيني المظلوم والإسرائيلي الظالم.
ولهذا إن زرت ما يشبه معسكرات الاعتقال في الأراضي الفلسطينية المحتلة وشاهدت بأم عينيك جدار الفصل العنصري والزحف الرهيب للمستعمرات في بساتين الزيتون الفلسطينية، عليك أيضا أن تزور نصب المحرقة وتنحني أو ربما تقبّل أيادي وأرجل الناجين منها، رغم أن لا ناقة ولا جمل للفلسطينيين والعرب والمسلمين فيها، وتذهب وتنحني أمام حائط المبكى الذي ظل متروكا بعد تسويته بالأرض من قبل الرومان منذ نحو ألفي سنة، وهناك عليك أن تتحدث أو تسمع صاغرا عن الإرهاب الفلسطيني إن أردت أن تكون عادلا. والعدالة إما أن تكون هكذا أو لا تكون، ولله في خلقه شؤون!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي