رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لا، أنا لستُ منطويا

في لقاءٍ ضم بوتقة من مجموعة من الشباب البحرينيين المحبين للكتاب، كان اللقاءُ إجابةً لسؤالين:
الأول: لماذا تحب أن تقرأ؟
ببساطة أحب أن أقرأ، لأني أحب أن أقرأ. لا أكثر ولا أقل، وبلا تعقيد ولا تقعّر. إنه الحب، هو الدافع الأزلي دوما لكل ما نقوم به. فأنتَ تهوى كرة القدم لأنك تحبها، وهذا سيكون جوابك لو قال لك أحدٌ لمَ تلعبها؟ أو لمَ تتابعها؟ وكذلك أنتِ تحبين النشاط الاجتماعي، ولو سألكِ أحدٌ: لم تحبين العمل الاجتماعي أو الخيري أو التطوعي؟ لما كان عندك أقوى من كلمة أحب أن أعمل هذا. يعني أنك تجد لذة كنتيجةٍ لهذا الحب.
قد يأتي من يقول حول الإجابة الكثير كالاستفادة، والانفتاح على الدنيا، وعوالم الفكر والعلوم، وكل هذا صحيح لولا أنها كلها نتيجة لهذه اللذة، اللذةُ المغروزة في أعماقنا مع تكويننا وكينونتنا. فترى أن اللهَ وضع فينا حسَّ اللذة للطعام، وهذه اللذة الغريزة الأولى المزروعة بأحاسيسنا هي التي جعلت الشعوبَ تتفنن في طبخاتها، فالسومريون كان لهم أكثر من 200 طبخة فقط مذكورة بلوحة صخرية مما وجد الأركيلوجيون في مهد الحضارات ما بين النهرين، في العراق. وفي الصين أكثر من مليون صحن متنوع، كلها تؤدي ذات الغرض للإشباع ضد الجوع، ولكن دافعها واحد: اللذة؛ وإلا لاكتفى البشرُ كما سائر الحيوان بوجبةٍ مشبعةٍ واحدة. إذن هو الحب الذي نتيجته اللذة.. ثم تنفتح أمامك بوابات كل شيء في هذه الدنيا كتبَه أو وضعَه أو قرأه أو عمله أو اخترعه أو اكتشفه الإنسان عبر كل تاريخه.
فالمختصر: نعم دافعي لحب القراءة هو أني أحب أن أقرأ.
السؤال الثاني: ألا تقودك القراءة للعزلة عن الآخرين؟
واحدة من أكبر الخرافات التي صدقناها هو أن القراءة تدفع للعزلة ولطالما سمعت ذلك. الحقيقة ليست هناك عزلة في القراءة. في القراءة حديثٌ ونقاشٌ متبادلٌ قائمٌ متواصلٌ بين القارئ وبين الكاتب. إني مثلاً مدينٌ لأنيس منصور الذي كان أول من نجح في نقلي للآداب العربية والقراءة لها تمتعا لجمال أسلوبه ولفقراته القصيرة المتقافزة، إنه يرقص على الصفحة فتتمايل أنت كقارئ مع إيقاعاته. ليس كل ما ينقل "منصور" صحيحا علميا مئة بالمئة ولا هو يدعي ذلك، ولكنه رجل اطلع على ست لغات اطلاعا عميقا ثم قرأ آلاف الكتب– كما يقول- وأثّرت في طرائق تفكيره وكتابته. ربّاني جدي على كتب التراث العربي والإسلامي ولكن كان حفظا وتلقيا بلا حوار. في الكتب الغربية كنت أجد نفسي متحدثا بالذات مع "كيت" الشاعر و"توماس إليوت" قبل وبعد تدينه، خصوصا فنيته العليا ملحمة "أربعاء الرماد"، ومع "هيمنجواي" الذي كتب بأسلوب الشارع الأمريكي في الولايات الجنوبية الوسطى، و"مارك توين" الذي يضحكني حتى أقع على الأرض.. فهل كنت وحيدا؟ كيف تكون وحيدا وأنت تقرأ "الحرب والسلام" لِـ"ليو تولستوي" الكتاب الذي يرصع بهيبته مكتبتي، وأنت تحاور الكاتب ومعه أكثر من 120 شخصية تفكر معك وتحادثك بالرواية. عندما تقرأ في الفيزياء تتحدث معك مع المؤلفين عناصرُ الحياة ذاتها وأجرام الفضاء وسدُمه.. وذرّاته، بل ستجد شيئا آخر، أنك ستكون أكثر اجتماعية مع الناس لأن لديك دوما ما تدهشهم وتمتعهم به مِمَّا تجمَّع بذاكرتك من أصدقائك المندسين بالكتب.
المختصر: لا، أنت لست بعزلةٍ وحيدة.. بل بزحمةٍ شديدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي