ابن خلدون وكشف مكنونه

عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المرجح ميلاده في - 1332م، الذي توفاه الله في حي المحمودية في القاهرة عام 1406م عاش 76 حولا ضامرة وغنية. عاشها مؤسس علم الاجتماع، الذي أعاد كتابة - العلة للتاريخ-، والذي حول رواية التاريخ إلى دراية بالسبب المؤثر والنتيجة المفترضة، والذي كون القواعد الكلية لحركة التاريخ وقصة الحضارة، في قيامها وفي انهيارها، في قوتها وفي ضعفها. لا أحد سبقه في هذا الاستظهار، لا أحد كتب عن المقدمات المنطقية للضعف، وعن النتائج الحتمية في ميلاد الهزائم، وضياع الأوطان، وغياب العقل.
لن أطيل الوقوف عند فكر عبد الرحمن بن خلدون، فهذا بحث تعاقبت على سبره والغور فيه، رسائل نيل الدكتوراه بكل اللغات الحية، وفي كل جامعات العالم، حتى الصين واليابان أخيرا. ولكني سأقف عند الجانب الإنساني العظيم والحزين في حياة هذا الفيلسوف الكبير، فقد عاجله اليتم بفقد أسرته بمرض الطاعون. وكانت المسافة الزمنية الفاصلة بين أمه وأبيه هي 14 يوما فقط، وكان حجم الموت أكبر من أن يطيل أحد البكاء على ضحاياه، الوباء كان أكبر من الحس بالفجيعة، كانت الناس تستسلم للمرض، وهي بحكم اليقين ألا مهرب منه، ولا سبيل للخلاص، ولا وجه للحيلة معه. وحين انقضى كان قد ووري في التراب كل معلميه وأساتذته وأبوه وأمه التي لم يشبع بعد من تجليها على قلبه، ولم ينغمر بعد في حنانها الواله عليه.
خرج للحياة ابن خلدون كأنه، خارج من قبر رطب، مذهولا من نشره من مرقده، مذهولا من طي الموت السريع لكل شيء كان يحبه، وكان يرى فيه أمله وحاضره ومستقبله. قلب غير حصين كان قلبه، ونفس يعوزها الصبر كانت نفسه، وعقل سيئ الظن بالحاضر، وسرعة الزوال والتقلب.
لم يخبرنا عبد الرحمن الذي بات فقيها مالكيا عظيما وقاضيا عن هذا الحزن الغائر في نفسه، ولا عن يتمه المُعجل، وعن صباه المسلوب منه بقهر الموت وقدره! كان في زمن يعتبر الحزن والدموع لا تليق بالرجال الكبار، لا تناسب هيبة السلاطين، ولا جلالة الفقهاء الكبار الذي كان في عدادهم والمبرزين منهم.
هذا الإحساس عاد إليه وهو مغلوب على أمره أكثر، فقد كانت زوجته التي أوى إليها والتي للمرة الأولى من بعد الجنائز المتوالية لأهله وجيرانه ومن يحب، استطاعت بجمالها المذيب، ورقتها المنسابة، وحسها الفاسي- من أهل فاس- أن تفتح نفسه على غوامضها، وفرحها، فنهل منها حس اللحظة التامة التي لولا قدر الله لكانت نعيمه ودنياه وجنته.
ولكن الدهر لا أمان له، ولا ثبات لحركة المقادير فيه، وطبيعتها القاهرة. فبعد أن استقر في القاهرة في عهد الظاهر برقوق، أرسل لزوجته أن تصطحب معها ابنيه، وأن تستعجل بضيائها ظلمة وحدته، وأن تطوي شوقه إليها بسحرها الحلال الذي طال أمد فقده. كتب للمرة الأخيرة لها ضراعته إليها أن تتعجل اللقاء، فقد بات الشوق إليها يجتاحه بضراوة حزن اليتم وفجيعة المحروم من كل حب في صغره.
وكان ما الله قد أمضاه عليه في أم الكتاب، وفاضت عليه المقادير بذات الحس المروع الموجع الذي شعر به أول مرة وهو يواري أمه ثم أباه، وهكذا تتابعت القبور وتوالت الجنائز! إلا أن هذه المرة لم تكن جنائز ولا قبرا يبكي ليلا على حافة ترابه، فقد غرقت السفينة في عرض البحر، وكان لهم قبرا لا ثبات له.
والله وحده يعلم كيف كان حال زوجته مع طفليه حين لحظة المفارقة التي لا جمع بعدها، فالبحر يخرس ضحاياه قبل إغراقهم، وكان ساعتئذ عبد الرحمن بن خلدون غير مستعد لهذا المصاب. ولم تكن في نفسه قوة لاستقباله. فكان منه ذاك الضعف الحزين المروع الذي لم يفارقه حتى يوم الخميس من شهر شعبان بعد صلاة الفجر حين أذن لصبره أن يتلاشى، وأن يرتفع، وأن يبوح عن نفسه بطواياها الثقيلة قبل أن ترتفع روحه إلى الرفيق الأعلى لعام 1406م، وكانت لحظة هاربة سريعة الانقضاء والزوال.. والغريب أيضا أنه كان حينئذ وحيدا منفردا في غرفة شحيحة الضوء فقيرة التكوين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي