رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أن تعرف المريض قبل المرض

.. لي ولع بقراءة أدب الطب. عندي عشرات الكتب التي تتكلم عن علوم الطب وفلسفته وأنواعه وتاريخه. لا أعرف أن أداوي جرح شوكة، ولكنه علم ومعرفة يساعداني كثيرا ليس في فهم عالم الطب وعلومه، ولا في تركيبنا وتشريحنا فقط، بل في حكمة السير الكوني.
الطب مرتبط تماما بالحالة المنطقية المعاشية لأي إنسان، أو مجتمع، أو دولة. خذ مثلا أن خيانة الوطن تعتبر أكبر الجرائم على الإطلاق في دستور أي دولة، ومعظم الدساتير نصّت على قتل الخائن، لأنه أشد ما يؤذي الأمة من داخلها. ويتمثل ذلك في الجسد البشري، المناعة هي جيش أجسادنا كما للأمم جيوش تذود عن حماها وتؤمن لشعوبها السلام. والمناعة جيوش هائلة من الكريات البيضاء همها طرد العدو الغازي الغريب ومهاجمته، ولكن أعظم الأمراض وأشدها فتكا هي لما تقرر المناعة أن تهاجم خلايا الجسم. هنا يكون العلاج صعبا جدا، فالمناعة تتقدم عن العلاج خطوة، لأنها من داخل الجسد فتعرف كيف تؤذي الخلايا وتحطمها وتخرّبها.. فالمناعة تصيبها جريمة الخيانة.
كنت أقرأ في كتاب "أبقراط" الذي يعتبر أول طبيب فعلي ما زالت قوانينه الطبية تقف صحيحة حتى اليوم منذ أكثر من ألفي سنة. ولفتني في أحد قوانينه التشخيصية، والتشخيص عماد العلاج الرئيس، أنه يقول: "لا بد أن تعرف المريض الذي يحمل المرض أكثر من أن تعرف المرضَ الذي يحمله المريض". وضعتُ الكتابَ الضخم جانبا، وجلست أتأمل عمق وعبقرية هذه الجملة، التي يغفل عنها كثير من أطبائنا ومديرينا ومسؤولينا.
من أسباب سقوط المستوى الطبي سهوهم التام عن هذا القانون، أن تعرف المريضَ قبل المرض. وهذا صحيح فمريض يقتله زكام ومريض لا يهده "جنون البقر". الجسم الإنساني فيزيائيا وتركيبيا يختلف من مريض لآخر، لذا فإن العملية الطبية التشخيصية مرتبطة بالأنا أكثر من الفيزيقيا. أي بحالة الشخص الفردية الخاصة أكثر من ظواهر المرض المادية. وتعجب أن يغفل الطبيب وهو قانون أساس، كما يتضح بعلم الأدوية، فإن هناك أدوية وهي كثيرة جدا تصرف كميتها، حسب حالة المريض المادية كعمره وطوله ووزنه كدليلٍ على الاختلاف الفردي، بل حتى الجنسي أو النوعي الإنساني. فهناك أمراض تغزو أصحاب البشرة الداكنة، وتقل عند أصحاب البشرة الفاتحة، أو التعامل يكون فيها مختلفا للمرض في النوعين، ويولد بشر بمقاومة قوية، والبعض بمقاومة هشة.
فالمريض إذن حالة فردية خصوصية، تبدأ منها كل العملية العلاجية، التي تبدأ بالتشخيص، لذا أسوأ أنواع التشخيص توجد عند العيادات المتكدسة بالمرضى، حيث إن الطبيب لا يقضي سوى دقائق يسأل المريض الأسئلة العامة التي يسألها لكل الباقين.. فتنعدم أول قوانين العلاج معرفة المريض قبل المرض.
في الفلبين، ولا أقول في «مايو كلينك»، وفي مستشفى حكومي، وليس بمستشفى خاص.. تعب أحد أصحابنا فأخذناه لأقرب مستشفى ثم أغلقوا عليه غرفة مع أكثر من طبيب وطاقم طبي.. ولم يخرج لنا إلا بعد ساعتين. لما سألناه قال: "سألوني 300 سؤال حتى عن سرعة نمو شعر رأسي".
أخطاؤنا الطبية هي بعدم مراعاة قانون أبقراط بأن المريض حالة متفردة، لها تشخيص متفرد يلحقها علاج متفرد، فتكتمل الدائرة العلاجية بشكلها الصحيح.
وينطبق القانون عليك إن كنت مديرا فلا بد أن تعرف أن لكل موظف حالة وشخصية وقدرة معينة. وينطبق القانون حتى عندما تحكم بلدا فيه ملايين الأفراد!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي