رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التعليم العالي .. الإهمال المريح

في مقالة لمؤسس ورئيس المنتدى الاقتصاد العالمي، وصف العصر الجديد بأنه عصر “الموهبية” ليدلل على طبيعة التحديات. يذكر أن العصر الجديد سيقفز على التوزيعات والمسميات القديمة لمراحل تطور اقتصاديات الدول. فحين بدأ النمو الاقتصادي يتباطأ بعد الأزمة المالية ظهرت معالم وتحديات جديدة في إدارة الموارد والبيئة والموارد البشرية والتوسعات الحضرية. هذه التحديات في أغلبيتها فنية وتقنية، لكنها تتطلب قرارات عليا، ولذلك يرى أن “للموهبة”، التي يعرفها أنها مرحلة تحولية تتطلب قيادات ذات نزعة فنية – سياسية لإدارة المؤسسات العامة والخاصة. مطبخ “الموهبية” هو إدارة التعليم العالي.
تترعرع الموهبية من مصادر عدة عامة وخاصة، لكن نقطة الانعطاف في إيجاد الكوادر التكنوقراطية الفنية تبدأ وتنتهي في سياسات وممارسات وزارة التعليم العالي. امتدادا لسياسات الاقتصاد الريعي المريح أخذ التعليم العالي بالنهج المريح، على الرغم من الحاجة الحاسمة إليه أن يكسر المعتاد الضعيف في غالبه. يتصف هذا النهج بناحيتين متلازمتين: الأولى أنه طبقا لما ذكر وزير التعليم العالي أن الجامعات لدينا تقبل نحو 93 في المائة من خريجي الثانوية العامة، بينما الدول الأكثر نجاحا تقبل فقط نحو 42 في المائة، ما يعني أننا أكثر كفاءة من غيرنا، وليس هناك دليل مادي على هذا، أو أننا اخترنا الطريق المريح لإرضاء العامة دون مسألة فردية أو جمعية. الخاصية الثانية أن نظام البعثات يفقد الكفاءة الإدارية التي تتناسب مع متطلبات عصر الموهبية. هناك ممارسات كثيرة بعيدة عنها، لكن نكتفي بذكر بعض منها.
كفاءة كوادر عصر الموهبية تتطلب عادة إعدادا عاليا، خاصة في الهندسة والاقتصاد والقانون. الأغلبية الواضحة لحملة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعات ليست من أفضل 20 قسما في الاقتصاد، والجزء الأكبر من جامعات أقل من المتوسط، فمثلا ذكر لي أحد حملة الدكتوراه من جامعة بريطانية أنه بعد أن حصل على الماجستير من جامعة صغيرة من أمريكا وجد أن الجامعات الأمريكية تتطلب امتحانا شاملا ومعرفة في الرياضيات فوجد ضالته في جامعة بريطانية، كل ما تطلبت هو “بحث” مستقل بعيد عن استحقاقات التعليم البريطاني ولمدة نحو سنتين، ولا تختلف التجربة كثيرا حتى في التخصصات المادية مثل الصيدلة والكيمياء وغيرهما. الظاهرة الأخرى تظهر في دراسة القانون في أمريكا، فالأغلبية العظمى من خريجي القانون تأخذ “بالدراسات القانونية” وليس دراسة “لإجازة المحاماة” ولذلك تجد حاصلا على الماجستير أو الدكتوراه في القانون وهو غير قادر على كتابة عدة صفحات تليق بمحام. رد هؤلاء التقليدي أن القانون مختلف في أمريكا، لذلك إذا كان الهدف دراسة قانون المملكة فالأحرى الدراسة هنا، وإذا كان الغرض مكسب الكفاءة فالأحرى الأخذ بالمنهج الأمريكي.
التحديات التنموية تطالبنا بمركزية الموهبية، بينما نمارس فهلوة أكاديمية بمباركة من التعليم العالي. أصبح الهروب والتهرب والإصرار على عدم الانكشاف على الرغم من تكاثر دور المستشارين لدى الوزارة أو لعل من قائل إن وجودهم حماية للأمثلة الآنفة الذكر، يصبح الضرر على مشروع تنمية الموهبية قائما ومستمرا، ويصبح إعداد الكوادر نزعة فردية وقليلة وضائعة في بحر من عدم الأمانة الفكرية والنزاهة الأكاديمية والكفاءة المهنية.
ليس لدي حل وليس هناك حل سهل عندما يكون الإهمال المريح طويل المدة، لكن علينا مجتمعيا نقاش هذه المواضيع بدرجة من الجدية والانكشاف، والاستعانة بالأجير الأمين في أضعف حلقة لدينا: إيجاد وإعداد التكنوقراط الكفء، وليس خلط الحابل بالنابل تحت مظلة تبدو مريحة للجميع، لكنها تضر بالجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي