ظاهرة «آفة» النخيل .. السوسة الحمراء
كنا في أوائل الثمانينيات الميلادية في رحلة صيفية، داخل الولايات المتحدة الأمريكية، متجهين إلى ولاية كاليفورنيا من إحدى الولايات المجاورة لها. وقبل أن نعبر إلى داخل كاليفورنيا، تم إيقافنا للتفتيش، وهي بادرة لم نعهدها من قبل داخل أمريكا. ولكنه لم يكن تفتيشا دقيقا، بل مجرد سؤال إن كنا نحمل معنا فواكه طازجة. فأخبرناهم بوجود كمية قليلة. فخيرونا بين أن نسلمها لهم لإعدامها أو أن نأكلها قبل دخول كاليفورنيا. فاخترنا، على ما أذكر، الخيار الأخير. فاستوضحنا من المسؤولين عن سبب ذلك الاهتمام والحجر على دخول الفواكه إلى الولاية. فذكروا لنا أن بعض المزارع لديهم مصابة بما كان يسمى "بذبابة الشرق الأوسط". والتفتيش لم يكن خاصا بنا لأننا من الشرق الأوسط، بل كان ساريا حتى على الأمريكان أنفسهم وكل من يعبر الحدود. واستمر الحجر أكثر من ستة أشهر حتى قضوا على ذلك الوباء نهائيا.
وماذا عن سوسة النخيل الحمراء التي حلت ضيفا ثقيلا على مزارعنا منذ ما يقارب 30 عاما؟ دخلت هذه السوسة النحيسة إلى المملكة عن طريق شتلات أشجار الزينة المستوردة، من نوع "الواشنتونين" الذي يشبه النخيل، ربما كانت مجلوبة من باكستان على ما أذكر. واستقرت آنذاك في مزارع القطيف. وبعد اكتشافها ومعرفة خطورتها لم نحرك ساكنا. ووجدت في نخيل القطيف "الكث" مرتعا خصبا للانتشار. وهي حشرة تنتقل إلى مسافات طويلة عن طريق الطيران. والأم نفسها غير مؤذية، ووظيفتها وضع كمية كبيرة من البيض داخل النخلة، بين الليف والكرب. وبعد أن يفقس البيض تعيش اليرقات على "جمارة النخلة، فتلتهمها بشراهة شديدة حتى تقضي عليها وتكون فراغا كبيرا داخل النخلة. وتظهر علامات كثيرة على وجود السوسة داخل جذوع النخل. فتصفر العسبان الخضراء ويظهر عليها الذبول. ويلاحظ خروج مادة لزجة تشبه دبس التمر تسيل من الجذع ولها رائحة كريهة. ولو وضعت سماعة طبيب على النخلة المصابة لسمعت ما يشبه الدبيب أو الطحن، وهو صوت حركة اليرقات داخل الفجوة التي تعيش فيها. وبعد أن تصل اليرقات طور النمو الكامل تطير إلى أماكن جديدة، وهكذا تسير حياتها. والخطورة هي من نقل الفسائل التي تحمل اليرقات ولم تظهر عليها علامات الإصابة إلى مناطق أخرى.
والحديث لا يزال عن القطيف. فقد كان من المفروض أن المسؤولين في وزارة الزراعة آنذاك طبقوا الفكرة نفسها التي استخدمتها ولاية كاليفورنيا من أجل احتواء سوسة النخيل والقضاء عليها في مهدها. وكان من الممكن أن تعمل الوزارة حجرا محكما وطوقا أمنيا حول منطقة القطيف بأكملها لعدة شهور للتأكد من عدم تسرب شتلات النخيل إلى خارج القطيف، في الوقت الذي تكون فيه فرق المكافحة تقوم بواجبها. وهو ما لم يحدث مع الأسف. وكنا فقط نسمع عن وجودها ولم نشاهد اهتماما من قبل الإعلام يصل إلى مستوى التثقيف والتحذير من خطورة هذه الآفة التي أصبحت وباء يصعب التخلص منه. وبعد أن انتشرت الدودة في أماكن كثيرة خارج حدود القطيف، أدركنا أننا أمام عدو شرس سريع الانتشار. وفي وقت متأخر صدرت تعليمات بمنع نقل الفسائل من مكان إلى آخر دون موافقة وكشف من قبل مكاتب وزارة الزراعة. وكعادتنا وسلبياتنا، لم يتقيد أحد بتلك التعليمات. ووجدت السوسة طريقها إلى جميع مناطق المملكة دون استثناء. وكان من النادر أن تسمع عن القبض على بعض الفسائل المخفية ومن ثم حرقها. حدث هذا في منطقة القصيم في حالات قليلة بسبب الرقابة الشديدة من قبل الجهات المختصة. وإن كانت، في نهاية المطاف، لم تمنع من وصول الدودة وانتشارها هناك، كما هي الحال في بقية ربوع المملكة.
والآن وصل انتشار الدودة إلى مرحلة متقدمة لا تجدي معها محاربتها بالطرق التقليدية. ففي مثل هذه الحالات المستعصية، أفضل الطرق التي ربما تساعد على القضاء عليها هي إجراء بحوث علمية متقدمة لإيجاد حشرة أخرى تعيش عليها أو تدخل في جسمها وتسبب موتها ويطلق عليه، العلاج البيولوجي أو الحيوي. وقد قرأت أخيرا عن توصل وزارة الزراعة إلى طريقة فريدة، وهي تدريب نوع من الكلاب على التعرف على النخل المصاب، إما عن طريق الشم أو الصوت. وهذا يتطلب مجهودا كبيرا للمكافحة البشرية وعددا كبيرا من الكلاب المستخدمة، نظرا لضرورة تزامن المكافحة في جميع أنحاء المملكة. ولكنه مع ذلك يعتبر حلا مقبولا وأفضل من عدمه. ومهما كان من الأمر، فإن تصريحات المسؤولين والزيارات المعلنة لن تجدي شيئا. فنحن أمام آفة تحتاج للقضاء عليها إلى جهود علمية مكثفة وإصرار على النجاح تحت قيادة تعرف وتدرك معنى التحدي. ولا بد من وضع جدول زمني والعمل بشفافية مطلقة وفتح المجال لكل من لديه إبداع يشارك به في حل هذه المعضلة الكارثية. ومن المؤكد أن هذه الآفة الحشرية قد كبدت المزارعين عشرات الألوف من النخيل المثمر. ولا تزال تتوسع في تدميرها لأشجار النخيل ما لم نكن أكثر جدية للتخلص منها.