أخيرا أسعار حليب الأطفال تحت المجهر
لعل هذا أهم خبر اقتصادي يمكن الحديث عنه خلال الأسبوع الماضي، فقد بدأت وزارة التجارة والصناعة بالاشتراك مع مجلس المنافسة، بإجراءات التحقيق مع أكبر شركات إنتاج واستيراد حليب الأطفال، وذلك بعد إتمام إجراءات البحث والتقصي والضبط المشترك حيال ما لوحظ من ارتفاعات سعرية متزايدة ومتزامنة في هذا المنتج. وهنا أقف مع عبارة متزايدة ومتزامنة في هذا المنتج. الحقيقة أن كل من لديه طفل يعرف حجم المعاناة في هذا الموضوع، فالأسعار تتبدل بشكل مستمر ومفاجئ وفي كل صيدلية سعر، وفي كل مركز تجاري سعر والكل له عذره وشكواه، وقد يمر أسبوع ولا تجد حليبا في السوق، وإذا سألت عن السبب تجد الصيدليات والمراكز التجارية تقول إن الشركة المنتجة تجفف السوق تمهيدا لرفع الأسعار، وفعلا عندما تعود بعد فترة تجد الأسعار قد ارتفعت.
من يعرف الاقتصاد يعرف أنه لا يمكن لأي شركة أن تغامر بتجفيف السوق من منتجاتها، إلا إذا كانت واثقة تماما (وأضع تحت تماما خطا) من الشركات الأخرى، فإما هي مسيطرة تماما ومحتكرة للسوق فلا تأبه بالغير، وإما أنها على اتفاق مسبق مع باقي التجار والمنتجين، وهنا بيت القصيد. فبينما يمكن ببساطة إثبات الاحتكار فإنه من الصعب إثبات الاتفاق على رفع الأسعار بشكل قانوني، وهذه الأخيرة تحتاج إلى إجراءات طويلة من قبل مجلس حماية المنافسة، وفي المقابل ليس لدى وزارة التجارة أساس نظامي يمنع أي شركة من تعديل الأسعار طالما السوق تنافسية وحرة. مع الأسف أن الشركات تعرف ذلك أيضا (لذلك كنا نقول إذا ارتفعت الأسعار أبشري بطول سلامة يا شركات). ولكن الأمر بدأ يأخذ مسارا مختلفا عندما بدأ مجلس حماية المنافسة ووزارة التجارة يعملان معا وبنغمة واحدة هدفها حماية اقتصاد الوطن.
بدأ مشروع التعاون أولا بصدور قرار وزير التجارة بإخضاع حليب الأطفال لأحكام قواعد التنظيم التمويني، واعتبارها مادة تموينية، وهذا النظام يتضمن عقوبات متنوعة تتضمن غرامات مالية، ونشر العقوبات في الصحف، وإغلاق المنشأة، وتصل أيضا إلى منع المنشأة المتورطة في المنع من الاستيراد. وقد ثبتت فعالية هذه الإجراءات مع سلع مثل الدقيق والشعير. هذه الخطوة وهذا القرار مهم جدا، حيث إنه يمثل ضربة استباقية للشركات التي تتفق على رفع الأسعار، والموزعين الذين يثبت تلاعبهم في الأسعار، وكذلك يرفع من مستوى أهمية هذه السلعة المهمة جدا، التي لها تأثير مباشر على ميزانية الأسر.
قرارات مجلس حماية المنافسة من جانبها قرارات قوية جدا ورادعة، فهي تنتهي بعقوبات ضخمة تصل إلى الملايين ورد كل الأرباح التي تحققت من جراء الاتفاقيات على رفع الأسعار، لكن المشكلة التي تواجه نظام حماية المنافسة أنه يحتاج إلى إجراءات طويلة قد تستغرق أكثر من سنة، بل سنوات في بعض الأحيان بدءا من البحث والتقصي ثم رفع القضايا ثم الاستئناف ضدها، وفي المقابل لا يمكن بقاء الوضع كما هو حتى تنتهي تلك الإجراءات الطويلة؛ لذا فإن التعاون بين المنافسة كبحث وتقصي إثبات والتجارة باستخدامها قواعد السلع التموينية سيحقق ضربات استباقية لمن يريد التلاعب بالأسعار والاتفاق على رفعها بدون وجه حق. وهذا بلا شك عمل رائع ومجهود يستحق الثناء، بينما تعمل قواعد المواد التموينية بتهدئة الأسعار تعمل أنظمة مجلس حماية المنافسة في مسارها لتحقيق عقوبات أكثر ردعا وقوة.
التعاون المثمر بين هاتين المؤسستين يقدم نموذجا رائعا على أن كثيرا من المشاكل يمكن حلها إذا وحدت الوزارات والهيئات أعمالها ونسقت فيما بين أنظمتها، بحيث تتكامل الأنظمة والجهود، فبينما كان يصعب على فرق وزارة التجارة تحديد الفرق بين تغيرات الأسعار التي تنتج عن تفاعلات طبيعية بين العرض والطلب أو الأسعار العالمية، وبين تلك التغيرات التي تنتج من اتفاقيات بين التجار وتجفيف السوق، فإن إمكانات مجلس المنافسة في ذلك عالية وقادرة على التمييز من خلال التحقيقات والتقصي ليس على مستوى المملكة، ولكن على المستوى العالمي أيضا، بينما إجراءات مجلس حماية المنافسة طويلة فإن إجراءات وزارة التجارة عاجلة وفعالة، فالتكامل في العمل يحقق مزايا قوية لوزارة التجارة من خلال ثقتها في إجراءاتها (من خلال دعم مجلس المنافسة) قبل أن توقع عقوباتها الاستباقية لمخالفة قواعد السلع التموينية. فالتعاون بين الطرفين شكل فريقا قويا من الصعب على الشركات تجاوزه، فبمجرد أن يقف مجلس المنافسة على قضايا تتعلق بالاتفاق على رفع الأسعار أو الاحتكار تبدأ فرق الوزارة بتنفيذ عقوبات سريعة تتعلق بمخالفة قواعد السلع التموينية، فالمتوقع بعدها أن تهدأ الأسعار وتعود لوضعها الطبيعي، لكن مع بقاء مجلس حماية المنافسة في عمله بهدوء دون ضغوط من السوق من أجل الوصول إلى أحكام القضاء التي تهدف إلى رد جميع الأرباح التي تحققت من خلال رفع الأسعار.