خيارات الطاقة: لا بد من قرار
أثبتت سياسات وتجارب الدول من ناحية وتطور مصادر الطاقة من ناحية أخرى أنه يصعب على أي دولة ذات حجم ودرجة من التقدم أن تعتمد على مصدر واحد. فمثلا أدت تداعيات أخطار مفاعل فوكوشيما إلى الابتعاد عن المصادر الذرية للطاقة في اليابان، وأدت ظروف اقتصادية إلى تزايد توظيف الفحم الأمريكي في ألمانيا والطاقة الشمسية، وبدأت أمريكا في تقليل الاعتماد على الفحم لتوليد الكهرباء على حساب الغاز، وتزايد توظيف الرياح لتوليد الكهرباء في الدنمارك، وتحاول الصين تقليل الاعتماد على الفحم لمصلحة الغاز والطاقة الشمسية. كما بدأ تطور هيكلي في دول منها ألمانيا، حيث بدأت الأفراد والمنظمات الصغيرة تنافس المؤسسات الكبيرة في توليد الطاقة. ما يجمع هذه الأمثلة هو الحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة والمرونة في التغيير والتعامل مع الظروف الموضوعية لكل بلد. يقابل ذلك إصرارنا على تزايد توظيف النفط المكلف (التكلفة البديلة) في ظل تناقص الغاز بما يكفي لأغراض الصناعة والمنافع، الصفة الملازمة لدينا هي عدم المرونة في القرار.
كذلك يجمع هذه الدول أن القاعدة الاقتصادية أصلا متنوعة وكذلك حقيقة أن هذه الدول تعيش مراحل من التطور الاقتصادي الذي يجعل من الطاقة "صناعة"، بينما لدينا لا تزال الطاقة مصدرا تمويليا من ناحية أساسية ونموذجا استهلاكيا في جزء مؤثر من توظيفها. هذه الحقيقة كفيلة بتركيز الأذهان، فقلما تجتمع الحاجة المالية مع الاستحقاق الاقتصادي. ينمو استهلاك المملكة من النفط بنحو 6 في المائة سنويا. هذه الظروف الموضوعية تحتم علينا الإسراع في الأخذ بعدة خطوات سريعة في نفس الوقت. للإنصاف شرعت الحكومة في تأسيس نواة لبعض هذه الخيارات، لكنها بطيئة أحيانا وغير متكاملة من ناحية وتنقصها المرونة من ناحية كبيرة. تنهج كل الدول لتعديل السياسات أربعة محاور، هذه المحاور لا تتعارض وغالبا تكاملية عمليا وتدعم سياسة تنوع القاعدة الاقتصادية.
الأول، إعادة التموضع فكرياً ومنهجياً، بحيث يركز الوعي والسياسة الاقتصادية على الطاقة للسيطرة على نموذج التنمية، فكما ذكر ماجد المنيف في ندوة اليورومني لم تفلح سياسات التنوع الاقتصادي. نقطة البداية ومعيار الأداء في إدارة الطاقة.
الثاني، النهج التجاري، خاصة أن التجارة قابلة للتجزؤ والتجربة، فمثلا لماذا لا نجرب استيراد الغاز لتوليد الكهرباء؟ فمثلا يمكن استيراد الغاز للمنطقة الجنوبية من اليمن الذي يصدر الغاز المسال، ولكهرباء الشمال من مصر أو قبرص لاحقا، ومن قطر للمنطقة الشرقية. كذلك يمكن تعديل مصانع الأسمنت مثلا لتوظيف الفحم، خاصة أن أغلبها في مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية للحد من الأضرار البيئية.
الثالث، لا بد من الدعم التشريعي بقوة والتصنيعي على مستوى أقل. يقوم مركز كفاءة الطاقة بجهود مكثفة وبدعم ممنهج من وزارة البترول وخاصة الأمير عبد العزيز بن سلمان، نتجت عنه معايير وتشريعات للمكيفات والنقل والمعدات الكهربائية لاحقاً، ولكن علمتنا التجربة أن القبائل البيروقراطية عنيدة والتفكير الوطني الشمولي ليس من أعلى اهتماماتها غالبا، لذلك لا بد من مظلة تشريعية أكثر تدخلا وأعمق. للتصنيع دور مهم تصاعديا، فمثلا تصنيع الألواح الشمسية والمعدات الأخرى ذات العلاقة يساعد على إيجاد بيئة متكاملة Eco- system للمساعدة على إيجاد مصالح مترابطة في صناعة الطاقة، وإبعادها تدريجيا عن الدور الحكومي.
الرابع، الاستعداد للتعلم من الآخرين في إدارة الدعم. الكل يعرف ويقبل بضرورة استمرار الدعم، ولذلك ما نحن بصدده ليس تقليصا مؤثرا للدعم، وإنما إعادة هيكلته ليستمر مدة أطول لأكبر عدد ممكن، خاصة لمن هم أقل دخلا. تجارب فنزويلا ومصر ونيجيريا والعراق أمثلة تعوق التطور، لكن تجربة إيران جديرة بالدراسة بينما تجربة النرويج قد تكون صعبة المنال في السنوات القليلة المقبلة على الأقل.
السياسة الحصيفة تتطلب درجة من المرونة الاقتصادية وحتى تغليبها على السياسية والابتعاد عن الحلول الفوقية التي غالبا لا تتسم بالمرونة والتدرج. تكلفة الدعم تصل إلى نحو 85 مليار دولار، ولكنها لا تذكر في أرقام الميزانية، وهذا لا يعني إخفاء تأثيراتها المالية والاقتصادية، التي أهمها تآكل القدرات والمقدرات.