رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


«الصحة» بين النظرة للإنسان والمريض

بعد مقال الأسبوع الفائت، تلقيت العديد من الرسائل التي طالبت بإيضاح الفرق بين النظرة للإنسان والنظرة للمريض. النظرة للإنسان تعني أن تكون لدى النظام الصحي قنوات واضحة لتقديم الرعاية الصحية للإنسان قبل أن يمرض، بما في ذلك الاهتمام بالصحة الوقائية والصحة العامة. فمثلا معظم قراء هذا المقال ليست لديهم جهة أو شخص مسؤول عن توفير العلاج لهم في حال مرضهم. كما أن كل قراء هذا المقال لا يعلمون من الطبيب المسؤول- في حال مرضهم - عن متابعة حالتهم الصحية بغض النظر عن المرض أو الحالة الصحية التي أصيبوا بها، كما أن كل قراء هذا المقال لا يتلقون الرعاية الصحية وفق نظام يكفل للجميع حصولهم على الرعاية الصحية.
من النماذج التي تستحق التقدير وتعمل به إحدى الدول الخليجية، هو سعي تلك المدينة الخليجية إلى إيجاد نظام صحي يكفل حصول كل الناس فيها على الرعاية الصحية اللازمة؛ لذا تعمل- لدى هذه المدينة الخليجية- العديد من اللجان الاستشارية على وضع نظام يكفل ضمان وجود طبيب لكل إنسان من سكان تلك المدينة. هذا الهدف المرجو تحقيقه أن يصبح لكل شخص طبيب أسرة، يكون ليس فقط بمثابة حلقة الوصل بينه وبين تلقيه الرعاية الصحية اللازمة، بل مسؤولا عن متابعته صحيا في حال إن تطلبت حالته الصحية المتابعة لدعا جهات طبية أخرى سواء داخلية أو خارجية، بل إنه سيكون لدى كل شخص طبيب مسؤول عن تلقي الرعاية الصحية حتى لمن ليس لديهم تأمين صحي، ما يقلل من إساءة استخدام الخدمات الصحية وارتفاع تكلفتها. ولعل نجاح هذه المدينة الخليجية الواعدة في تحقيق هذا الهدف قبل نهاية 2015 سيكون نموذجا لبقية دول الخليج في واقعية النظرة للإنسان بدلا من المريض.
سبق لوزارة الصحة أن رفعت شعار «طبيب لكل أسرة»، لكن مع الأسف بقي مجرد شعار دعائي ترفعه الوزارة عند الحاجة لذلك. بل إن وزارة الصحة لم تعمل على تفعيل نظام صحي حقيقي يحقق هذه الغاية. فوزارة الصحة تريد أن تعمل كل شيء، لذا لم تحقق أي شيء؛ حيث إنها - مثلا - تريد تشغيل المستشفيات ذاتيا، كما تريد أن تشغل وتشيد المراكز الطبية المتخصصة، كما تريد أن تبني وتشغل مزيدا من مراكز الرعاية الأولية، لذا لم تنجح في تحقق أيا من هذه الغايات. وبحكم دراستي للنظم الصحية لا يوجد نظام صحي في العالم حقق هذا الهدف المستحيل، لكن وزارة الصحة تسعى نحو إيجاد نظام صحي لا يوجد إلا في مملكة أفلاطون.
عند تدريسي مادة اقتصاديات الصحة أو تمويل الخدمات الصحية فدائما ما أبدأ بتدريس المادة عبر ذكر المثال الآتي: لو أن شخصا ورث مليون ريال ويريد استثمار هذا المبلغ بما يعود بالنفع عليه وعلى أسرته، فما هي أفضل الخيارات المتاحة له في ظل محدودية دخله الحالي؟ هناك خيارات متعددة تمكنه من استثمار هذا المبلغ، لكن هناك خياران رئيسان لاستثمار هذا المبلغ:
الخيار الأول: صرف المليون ريال في شراء سيارة فارهة كسيارة بنتلي أو رولز رويس فانتم أو غيرهما من السيارات الفارهة التي يكسب من خلالها شهرة إعلامية واجتماعية. هذه الشهرة ستدفع وسائل الإعلام لإجراء مقابلات شخصية مع هذا الرجل، ما يزيد وجاهته، ويحقق شهرة إعلامية جيدة. لكن بعيدا عن الوهج الإعلامي يبقى السؤال قائما: هل هذا هو الخيار الأمثل لهذا الشخص إذا علمنا أنه لا يملك منزلا لأسرته، كما أن المتطلبات المعيشية لأهل بيته ليست متوافرة؟ المؤسف أن وسائل الإعلام تركز أو تحتفل بهذا الشخص دون تركيزها على السؤال: هل هذه السيارة أولوية لاحتياجات هذا الشخص الفعلي على أقل تقدير في هذه المرحلة؟
الخيار الثاني: أن يتم صرف المليون ريال على النحو التالي: نصف مليون لشراء شقة لعائلته، ومائتا ألف لتأثيث البيت وشراء احتياجات أسرته، ومائة ألف لشراء سيارة، ومائتا ألف للاستثمار لتحقيق عائد سنوي يعود بالنفع عليه وعلى أسرته. هذا الشخص قد لا تكون آلية صرفه لمبلغ المليون ريال جاذبة لوسائل الإعلام؛ لأنه صرف المبلغ بطريقة تقليدية ولا تحقق الإثارة المطلوبة لنشر هذا الخبر. لكن يبقى السؤال قائما: هل عدم الإثارة الإعلامية يعني أن هذا الشخص لم يستثمر ماله بالطريقة الصحية؟ وهل الهدف من صرف هذا المبلغ تحقيق إثارة إعلامية أم تحقيق استثمار أمثل له ولأسرته؟
الصرف على القطاع الصحي مهما بلغ حجمه فلن يحقق نتائج ملموسة إلا إذا كان هذا الصرف وفق أولويات محددة ومعلومة. لذا هناك فرق بين أن تصرف لتأسيس برنامج عالمي في مجالات طبية محددة، وبين أن تصرف لضمان حصول الرعاية الصحية لكل الناس؛ لذا يبقى السؤال الاستراتيجي لكل دولة أو صانع قرار صحي: أين أولوية الصرف؟ ومن يحدد هذه الأولوية؟
لا شك في أن البرامج التي تسعى إلى حصول الناس على الرعاية الصحية ليست جاذبة إعلاميا، لكنها في الحقيقة أولوية تضمن حصولهم على الرعاية الصحية التي يستحقونها، وفي الجانب المقابل نجد أن الصرف على البرامج الطبية المعقدة جاذبة إعلاميا، لكن هذه الاحتفالية الإعلامية لا تضمن حصول معظم الناس على الرعاية الصحية التي يستحقونها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي