رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


«النازيون» يقتحمون مدينتي

لم يكن يوم 1 أيار يوما عاديا في مدينتنا الهادئة التي قلما تلتقي بشرطي فيها. قبل نحو أسبوعين من عيد العمال بدأت الصحافة تنذر أهالي هذه المدينة الوادعة التي تطل على ثلاث بحيرات، واحدة منها مساحتها مئات الكيلومترات المربعة، بأن "النازيين" وهم أعضاء في حزب اسمه "حزب السويديين" سيتقاطرون إلى المدينة للتظاهر ورفع شعاراتهم "النازية".
والتحذيرات كانت لها بداية دون نهاية، حيث صرح كبار الشرطة بأنه من غير المستحسن للمواطنين الوجود في مكان التظاهر أو بالقرب منه ونصحت أصحاب المحال بغلقها بشكل محكم وعدم ترك مواد أو أدوات أو كراسي في الرصيف أو أمام الواجهات، خشية أن يستخدمها المتظاهرون في معاركهم.
وانتظر الناس بخوف وخشية اليوم الموعود وهم منقسمون، هناك موجة معادية للنازية نشرت بيانا قالت إنها ستحاول جهدها إفشال المسيرة التي سينظمها "حزب السويديين" الذي يجاهر علنا بمنطلقاته النازية.
لماذا اختار هذا الحزب مدينتنا الصغيرة بالذات؟ أظن لأنهم تصوروا أن الناس هنا أكثر ميلا إلى منطلقاتهم من أي منطقة أخرى في السويد. وهذه ثالث مرة يختارون فيها مدينتنا للتظاهر، إلا أنهم هذه المرة قالوا إنهم سيقدمون بالمئات إن لم يكن بالآلاف.
لن أغوص في تفاصيل ما حدث، رغم أن التظاهرة كانت مادة خبرية صحافية دسمة، حيث توافدت وكالات الأنباء المحلية والأجنبية إلى هذه المدينة وسدت فيها الطرقات وسارت فيها مواكب الشرطة الراجلة وعلى الخيول والمركبات.
وأغرب شيء كان أن الكنائس بدأت تقرع نواقيسها دون انقطاع لمدة ساعتين تقريبا، وهذه أول مرة يحدث ذلك هنا منذ القرون الوسطي، حيث كانت النواقيس تقرع لمدة طويلة إيذانا بكارثة أو هجوم أو حرب أو اقتتال طائفي.
وامتلأت الكنيستان الكبيرتان بالناس – وهذا أمر نادر – وبدأ الناس مع قرع النواقيس يرتلون الأناشيد الكنسية معا – وهذا شيء أندر – والشوارع غاصة بالمتظاهرين "النازيين" ومناوئيهم وهم يرمون الواحد الآخر بالقنابل الحارقة والحجارة والقناني.
وقعد مئات الناس مفترشين الشوارع التي كانت مخصصة لمرور المتظاهرين "النازيين" في مسعى لإفشال التظاهرة، واضطرت الشرطة إلى تغيير مسار التظاهرة، لأن التظاهر والتعبير عن الرأي دون عنف حق مشروع في هذا البلد.
ولكن ما قصة النازية، وهل نستطيع تعريفها، أم أنها أصبحت مفهوما مهلهلا مثل الإرهاب، يعرّفه كل شخص حسب مصلحته وفهمه، إلى درجة صار "الإرهابي" في نظري مثلا "مقاوما ومحررا وبطلا" في نظر الآخرين.
النازية والفاشية من أسوأ المفاهيم الفكرية التي اخترعها الغرب. مفاهيم ومنطلقات شريرة تجب إدانتها وشجبها دون هوادة، لأن النازية وحدها أحرقت ستة ملايين من البشر أغلبيتهم من اليهود وهم أحياء، وسياستها كانت سببا في مقتل عشرات الملايين.
مشكلة الغرب تكمن في أنه ينظر إلى النازية والفاشية ضمن زمنكانيتها – النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا – في غضون بدايات ومنتصف القرن التاسع عشر، وينسى الغرب أن هذين المفهومين الشريرين ما هما إلا نتاج لإرث فكري وديني، كان يكفر ويلغي الآخر ويحرقه وهو حي باستخدام الخشب والنار. فقط الوسيلة تختلف لأنه عندئذ لم يكن لديهم الغاز لحرق الناس أحياء بعشرات وعشرات الآلاف.
المشلكة اليوم مع النازية كمفهوم أو ممارسة تكمن في الخطاب وكيفية تحليله. الكل يسعى لإضفاء بعد خاص له لأغراضه الخاصة، إلى درجة أن الممارسات التي تبدو اليوم أنها تبعدنا وتنقذنا من النازية والفاشية الغربية فيها بعض أو كثير من النازية ذاتها، هذا إن قبلنا تعريفا لها.
ولأننا ننحو في الكثير من الأحيان صوب النازية والفاشية، ولا سيما في السياسات والمواقف التي نتخذها والممارسات التي نقوم بها والألفاظ التي نطلقها، لا نقبل أن يكون هناك تعريف توافقي لها. ولكن هذا لا يمنع باحثا مثلي أن يحاول تعريف النازية.
إن درست الفكر النازي فلا بد أن تخرج بهذه المحصلة: الأفكار والممارسات والمفاهيم التي استخدمتها ألمانيا بين عامي 1933 و1945 التي تستند إلى استبداد نظام الحكم وسمو جنس من البشر بكل ما يمكله من لون وثقافة ودين ومذهب وغيره على الآخر والتصرف تجاه الآخر خطابا وممارسة من هذا المنطلق وإجبار الناس على القيام بأفعال وممارسات محددة واستخدام ألفاظ معينة واضطهاد وقتل المعارض أو المخالف.
إن كان هذا تعريفا مقبولا أظن أن جذور النازية سحيقة في التاريخ. صحيح أنها وصلت إلى أقصى درجات الشر في أوروبا في القرن التاسع عشر، لكن أثرها لفظا وممارسة لم، وربما لن، يختفي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي