العمل .. ضغوط الثقافة وخصائص الفرد
الحديث عن ثقافة العمل يعني تناول موضوع العمل في جزئياته كافة سواء ما له علاقة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أي ما هو مرتبط بالعمل في بيئته الداخلية من أنظمة وقواعد تحدد العلاقة بين العاملين، أو بين العاملين ورؤسائهم، أو لدى الأفراد القائمين على العمل، أو ما هو خارج الدائرة الضيقة للعمل أو المهنة، كأن يكون مرتبطاً بالبيئة الاجتماعية والثقافة السائدة، التي تفرض على أبناء المجتمع اتجاهات إما إيجابية أو سلبية، ما يجعلهم يتخذون مواقف من مهنة أو مجموعة مهن، حتى إن البعض قد يعمد إلى العمل في مهنة بدخل محدود إرضاء للثقافة الاجتماعية ونزولاً عند إرادتها، وتجنباً للنقد الاجتماعي الذي قد يناله فيما لو امتهن عملاً تستقبحه الثقافة الاجتماعية.
بعض المهن إن لم يكن جلها لها متطلبات وشروط، وللقائمين عليها مواصفات وخصائص، ولا تنجح وتتطور هذه المهن وتسهم بشكل فاعل في نمو المجتمع وتطوره إلا إذا تحققت هذه الشروط وتلك الخصائص.
ولعل مسحاً شاملاً لمجالات العمل المختلفة يكشف التباين، والاختلاف الذي يوجد بين المهن، على سبيل المثال مهنة التعليم ما من شك أنها تختلف عن مهنة الطب، وكلاهما يختلف عن التجارة، وهذه كلها تختلف عن مهن أقرب ما تكون إلى المهن اليدوية كالبناء، أو السباكة، أو الحدادة، وهذا الاختلاف تفرضه ظروف وطبيعة كل عمل من الأعمال ومتطلباته المعرفية والنفسية، والمهارية.
بعض الأسر ارتبطت تاريخياً بمهنة أو نشاط من الأنشطة، بل إن الاقتران بينهما أصبح تلقائياً، فإذا ذكر الشخص أو العائلة تداعى إلى الذهن المهنة التي اشتهر به الشخص أو العائلة.
المجتمعات في العالم أجمع يوجد فيها هذا التلازم والاقتران، فأسر اشتهرت بالتجارة وأخرى بالصناعة، وثالثة بامتهان السياسة، ورابعة بالزراعة، وأخرى في التعدين، وهكذا، كما يوجد تلازم أدق إذ قد نجد اشتهار أسر بمهن فرعية داخل المهنة الأم أو الحقل الكبير، فمن الأسر من برع في حرفة الصباغة ومنها من برع في الحياكة ومنها من برع في الخياطة، إلا أن هذا لا يعني عدم ممارسة نشاط آخر غير الذي برزت واشتهرت فيه.
هذا الارتباط بمهنة ما يكسب صاحبه مع الوقت الثقافة المعهودة والسائدة في المهنة حتى إن آثارها تظهر على المفردات التي تنتشر وتستخدم في أوساط ممتهني المهنة، كما يتضح ذلك على اللباس والمظهر الخارجي وغير ذلك مما يميز الأفراد عن غيرهم من المهن الأخرى.
الواقع، والسير الذاتية تكشف حرص الكثير من العائلات أو البيوتات على تنشئة أبنائها على الالتصاق والاهتمام بالمهنة التي تتوارثها أباً عن جد والتعرف على أسرارها والاحتفاظ بها حتى أصبحت هذه الممارسة مع الوقت ثقافة مميزة يتوارثها الأبناء عن الآباء.
عائلات في الغرب - على سبيل المثال لا الحصر - ذاع وانتشر صيتها، بل ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمجال من المجالات كروكفلر، وفورد، وكنيدي، فمنهم من برز في السياسة، ومنهم من هو في الصناعة، ومنهم من لمع في عالم المال والمصارف، وغيرهم من برز في المحاماة.
في عالمنا العربي يوجد هذا الارتباط بين الأسر والمهن، وذلك حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، فقد برزت أسر في التجارة وأخرى في الصناعة المطلوبة والمتوافرة في وقتها، إلا أنه في الوقت الراهن، ومع التغيرات السريعة والتقدم التقني الهائل، اقتحمت أسر المجال الصناعي بثقلها وسجلت لها اسماً بارزاً في المجال وعلامةً بارزة حتى إن بعض المنتجات تحمل اسم الأسرة القائمة على هذه الصناعة.