سباق السرعة في التداول المتكرر
يطلق مصطلح التداول المتكرر عالي السرعة HFT على عمليات التداول التي تقوم بها مؤسسات مالية متخصصة وتتم بسرعة عالية وبشكل متكرر. لا جديد في كون هذا النوع من التداول موجود منذ عدة سنوات، ولا جديد في ظاهرة استخدام التقنية العالية لتحقيق ميزة تنافسية عن بقية المتداولين. الجديد في الأمر أنه في الأشهر القليلة الماضية بدأ هذا النوع من التداول بجذب الأنظار إليه، لا سيما أنظار هيئة الأوراق المالية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي. ما المقصود بالتداول المتكرر عالي السرعة؟ وهل يمارس هذا النوع في السوق المالية السعودية؟
منذ إطلاق أول بورصة لتداول الأسهم في العالم، التي يقال إنها كانت بورصة أمستردام في هولندا قبل نحو 400 عام، والإنسان يحاول جاهداً بشتى الطرق التوصل إلى طريقة يستطيع من خلالها تحقيق أرباح عالية من خلال تداول الأسهم والأوراق المالية بمختلف أشكالها. لقد أصبحت أسواق الأسهم مجالاً لتحقيق الربح ليس من خلال تملك أسهم الشركات المدرجة ذاتها، بل من خلال آليات التداول ووسائلها. ومن المعروف أن آليات التداول والقوانين المنظمة لها مليئة بالثغرات، ودوماً هناك هاجس الشك في سلامة هذه الهياكل الضخمة التي تقوم عليها عمليات التداول. هل من ثغرات معروفة عند قلة من المطلعين، يتم تحقيق أرباح طائلة من خلالها؟ هل أسواق الأسهم "مضروبة"؟ بمعنى أن هناك وسائل معينة يستطيع الشخص المدرك لبواطن الأمور استغلالها لتحقيق أرباح غير مستحقة؟ الجواب الذي يؤكده جميع القائمين على البورصات في العالم ومعظم المنظرين من أكاديميين ومهنيين، أنه لا سبيل لتحقيق ربح غير عادي، طالما التزم الجميع بضوابط عمل الأسواق وتجنبوا الممارسات غير القانونية. هل التداول المتكرر عالي السرعة مخالف للأنظمة وينطوي على ممارسات إجرامية؟
على الرغم من الجدل الكبير الذي أثاره كتاب مايكل لويس "فلاش بويز" حول حقيقة هذا النوع من التداول، لا يزال هناك لبس في المفاهيم وخلط بين ما هو نظامي وما هو غير نظامي. بل إن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي ذاته لديه صعوبات في فهم ما يتم في هذا النوع من التداول لدرجة أنه أعلن في الأسبوع الماضي عن حاجته لتلقي المساعدة ممن لديه معرفة داخلية بالتداول المتكرر من المتداولين السابقين أو من المختصين من موظفي البورصات.
هناك من يعتبر التداول المتكرر عالي السرعة جريمة كجريمة التداول المبني على معلومات داخلية، بحجة أن هؤلاء المتداولين يمتلكون وسائل تقنية غير متاحة لغيرهم. غير أن هذا في الواقع لا يدخل في تعريف التداول المبني على معلومات داخلية نتيجة عدم امتلاك هؤلاء المتداولين أي معلومات داخلية، بل فقط يمتلكون تقنيات عالية. هل يعتبر الشخص المالك لجهاز حاسب آلي عالي السرعة أو لخط اتصال فائق السرعة مخالف لأنظمة التداول ويُعامل كمن لديه معلومات تتعلق بأسرار الشركة؟ لا يوجد أي تنظيم في أي بورصة يمنع من استخدام أحدث التقنيات لإجراء عمليات التداول، بل إن هناك مؤسسات مالية لديها حاسبات آلية فائقة السرعة تعمل بخوارزميات متقدمة تستطيع معالجة ملايين الأصناف من البيانات المبعثرة حول العالم في أجزاء بسيطة من الثانية، وتتخذ قرارات استثمارية في أجزاء من الثانية كذلك. طالما أنه سباق نحو الوصول إلى خط النهاية دون أي تجاوزات فلا خلل في ذلك، غير أن هذا لم يمنع الجهات المشرعة والقضائية والتنفيذية من طرح عدد من التساؤلات حول هذا الموضوع، خصوصاً عن دور بعض البورصات في تقديم خدمات تفضيلية لمن يدفع المقابل المالي المناسب.
هناك سباق محموم بين بعض المؤسسات المالية المتخصصة في تداول الأوراق المالية من أجل الحصول على أسرع خطوط اتصال ما بين المركزين الماليين في مدينتي نيويورك وشيكاغو. لقد انتعش سوق أطباق المايكروويف بعد سنوات من الركود نتيجة بزوغ شمس الألياف البصرية التي تتميز بسعات كبيرة وجودة في نقل البيانات. غير أن الاتصال عبر أطباق المايكروويف أسرع من الألياف البصرية بأجزاء قليلة من الثانية، والسبب أن سرعة الموجات الكهرومغناطيسية في الهواء أعلى من الموجات المحصورة داخل شعيرات زجاجية. هذا الفارق مهم جداً ومن خلاله يمكن تحقيق مئات الملايين من الدولارات نتيجة وصول المعلومة للمتداول قبل غيره بأجزاء بسيطة من الثانية.
هل السوق السعودية بمعزل عن هذه القضايا؟ في أي سوق مالية هناك من يمتلك التقنية ويستخدمها لمصلحته، ولا خلل في ذلك. على سبيل المثال، هناك من يتلقى بيانات أسعار الأسهم من على موقع "تداول" وهو متأخر بمقدار خمس دقائق عما هو متاح من قبل مزودي البيانات المتخصصين. هل نقول إن من لديه اشتراك عالي الجودة مع مزود بيانات مالية يتمتع بمزايا تفضيلية مضرة ببقية المتداولين؟ بالطبع لا، ولكن هذا لا يمنع من مطالبة الجهة القائمة على السوق بتقليص الفروقات بين إمكانات المتداولين وجعل الأسعار متاحة للجميع. كما أنه بلا شك من غير المناسب إطلاقاً تقديم خدمات تفضيلية مخالفة للأنظمة! هل يسمح للبورصة تقديم خدمة تجاوز الصف في قائمة الأوامر، على سبيل المثال؟
خلاصة القول من وجهة نظري أنه طالما التزم الجميع بالضوابط المنظمة لعمل الأسواق فلا مانع من استخدام كل ما هو متاح من وسائل لتداول الأوراق المالية لتحقيق ربح منها. غير أن هناك نقطة مهمة تقودنا إلى مقالة الأسبوع ما قبل الماضي عن جريمة التداول المبني على معلومات داخلية، وهي أن على الجهات المشرفة على الأسواق المالية بذل المزيد من الجهود للتأكد من عدم استغلال التداول المتكرر عالي السرعة لإخفاء عمليات التداول المبني على معلومات داخلية. والفكرة هنا أن من لديه معلومات داخلية وينوي استغلالها في التداول بطريقة خفية، قد يقوم بإجراء عمليات تداول متكرر كحركات تمويهية لإخفاء الجريمة.