فئة قليلة تنهب فئة كثيرة دون حسيب
عبارة "الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا" صارت مثل اللازمة لا تفارق شفاه وأقلام كل المعنيين بالشؤون الاقتصادية في عالم يعج بالبشر وتتقاذفه الصراعات والحروب والتنافس والتناحر على الموارد والمصادر طبيعية كانت أو صناعية أو غيرهما.
وصار النظام الرأسمالي قبلة الدنيا لا سيما بعد سقوط الشيوعية ونظامها الاشتراكي، وكنا نسمع ونقرأ أن هذا النظام وحده باستطاعته تلبية متطلبات العصر الحديث لا سيما انتشال الناس من الفقر المدقع والولوج بهم في صفوف الطبقة المتوسطة.
والالتزام بالنظام الرأسمالي، الذي أحد أسسه المهمة تستند إلى دور الأغنياء في خدمة المجتمع. والاقتصاد والنمو الاقتصادي المطرد، فاق كل تصور، حيث صار الناس ومعهم حكوماتهم ومؤسساتهم ينظرون إلى الرأسمالية بمثابة العقيدة أو الدين.
النظام الرأسمالي يقوم على زيادة الثروة ولا يكترث إن انحصرت الثروة هذه في أقلية من الناس لأن هؤلاء الناس ملزمون أخلاقيا باستثمار ثرواتهم ليس فقط لتعزيزها وتكديسها لأنفسهم بل من أجل أن ينعم بها الآخرون.
زيادة الثروة لدى الطبقة الغنية معناه تحسين مستوى المعيشة لدى عامة الشعب لأن زيادة الثروة تأتي من خلال الاستثمار في المجالات الاقتصادية كافة ومنها الخدمات. كلما زادت ثروة الطبقة الغنية زاد مستوى المعيشة لأنه أخلاقيا وقانونيا لا يجوز أن يستولي الأفراد الأغنياء على ما لم يحصلوا عليه بعرق جبينهم، أي من خلال العمل والكد الذي يولد ثروة إضافية للمجتمع، هذا ما تقوله الرأسمالية.
أعود مرة أخرى إلى الكتاب الثمين الذي أحدث صدمة في النظام الرأسمالي ألا وهو: "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" لتوماس بيكتي وهذه ثالث رسالة لي أذكره فيها عسى ولعل تتم ترجمة هذا المطبوع المهم للعربية وفي أسرع وقت ممكن لأنه صار متوافرا بلغات شتى الآن.
بيكتي يفند هذه النظرية في كتابه ويقول إنه ومن خلال دراسته فإنه توصل إلى أن الرأسمالية أطلقت العنان لتكديس الثروة دون حسيب أو رقيب، حيث صار المال الذي تخزنه فئة قليلة يتعاظم بطريقة تفوق كثيرا رأس المال الذي ينتجه وينتفع منه المجتمع.
وما زاد طين الرأسمالية بلة هو تسارع نمو النقود لدى الطبقات الغنية وبطرق سريعة "إلكترونية مثلا" وبأساليب لا علاقة لها بنمو رأس المال أو ثروة المجتمع.
ولأن هذه الأساليب متاحة قانونيا، ولأن الحكومات والمؤسسات تشجعها من خلال نظام الضرائب المعتمد حاليا الذي لا يزال يرى في تكديس الثروة لدى القلة نعمة للمجتمع، فإن الهوة بين الأغنياء والفقراء ستزداد بشكل مخيف في القرن الحادي والعشرين ويتبعها انعدام المساواة وما يجره من تبعات.
يذكر أيضا أن التكنولوجيا لا سيما التي نستخدمها اليوم في بيع وشراء العقار والصيرفة والسندات والأسهم وتقريبا كل شيء، تجري أسرع من لمح البصر وتشمل تقريبا الدنيا برمتها، الأمر الذي جعل غاية أسواق الأوراق المالية والعملات والمعادن وغيرها أن يكون الربح الصافي للمتضاربين وليس تشجيع الاستثمار والمساهمة في نمو رأس المال لفائدة المجتمع برمته.
وهكذا أصبح الأغنياء مضاربين أكثر منهم مستثمرين أو رياديين، وصارت الرأسمالية الحالية غير المنضبطة أداة لتركيز الثروة أكثر فأكثر بأيدي فئة قليلة من الناس على حساب الأكثرية.
ويقول بيكتي إن ما توصل إليه لا ينطبق على الدول الغربية الرأسمالية الغنية فقط بل حتى على دول مثل روسيا والصين ودول جنوب شرق آسيا ودول الشرق الأوسط لا سيما النفطية منها.
هل كنا نعرف هذا؟ ربما، ولكن لم نكن نملك المعطيات التي تبرهن على المسار الجديد الذي اتخذته لنفسها الرأسمالية ولأننا نملك المعطيات فلا بد لأصحاب القرار التحرك لأن التبعات ستكون ثقيلة جدا.
ولكن المشكلة الكبرى ستكون في تطبيق ما يقدمه بيكتي من مقترحات وهي زيادة الضريبة على الأغنياء وجعلهم يتحملون ثقل وتكلفة عدم المساواة في المجتمع ووضع الأسواق الإلكترونية برمتها تحت رقابة صارمة وتحت وطأة الضريبة التصاعدية.
في وضع اليوم لن تستطيع، في رأيي المتواضع، أي حكومة غربية القيام بذلك لأن الأحزاب السياسية التي تدخل الانتخابات وتحكم على أثرها تخشى كثيرا سطوة الأغنياء.