رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مجلس رقابي أعلى .. حان أوانه

لم يعد خافيا وضع المؤسسات الرقابية لدينا الذي يحتاج إلى إعادة ترتيب، ذلك أن الأمور اختلطت مع تجاوزات الجهات لصلاحياتها. وعلى الرغم من أن هناك لجنة مختصة تدرس الوضع الراهن، وتعمل على ترتيب المنزل الرقابي من الداخل، إلا أن الموضوع تأخر كثيرا، وتزايد الإرباك في العمل عند كثير من المؤسسات الخاضعة للرقابة، فما إن يذهب مراقب حتى يأتي غيره، من المؤسسة نفسها أو من غيرها، يذهب هذا ويأتي هذا في الأسبوع نفسه تقريبا، يطلبون الوثائق نفسها، ويقومون بالعمل نفسه، ويسألون الأسئلة المالية العامة نفسها عن الرواتب وحتى المخزون. أسئلة تجاوزها الزمن، وجميعها لا تهتم بجوهر الموضوع، وهو نظام الرقابة الداخلية والأداء وتنفيذ الخطط الاستراتيجية، وبينما يقبع الخلل الرقابي في عمق النظام بلا حل، تجد المراقبين من حوله يتجولون في كل مكان.
إن مَنْ يبني مؤسسة أيا كان نوعها يبدأ أولا ببناء نظامها للرقابة الداخلية، فهو الجدار المناعي الطبيعي داخل المؤسسة، ودور الأجهزة الرقابية سواء كانت داخلية أم خارجية هو التأكد من أن هذا النظام يعمل بكفاءة وفعالية، كما الطبيب يتفحص المؤشرات الحيوية والجهاز المناعي قبل أن يشرع في الفحص الدقيق، لكن اختلط الحابل بالنابل، فبدلا من فحص النظام الرقابي والتأكد من صلاحيته تمارس الجهات الرقابية الفحص المباشر للسجلات والعمليات التي مرت عليها سنوات في بعض الأحيان، وبينما المراقب يتفحص بدقة أوراق الماضي الغابر، تمر من أمامه معاملات اليوم تحمل فيها ما يزدجر. انعدام للكفاءة والفعالية في آن معا خلق مؤسسات ضخمة مصروفاتها تتضخم، تقابلها مشروعات مترهلة، ومشكلات مالية بلا حل، وليس أدل على ذلك من ارتفاع عدد المشاريع المتأخرة التي تؤخر التنمية، وتربك المستقبل مع ارتفاع تكلفتها، ونحن نعبر الربع الأول من القرن الحالي بلا حلول.
في الجانب الآخر من الصور، تشتكي المؤسسات الرقابية من ضعف الصلاحيات التي تمكنها من تفعيل توصياتها، وأن الجهات إما تتجاهل الرد وإما تماطل فيه، وجهات تخلق أزمة وتشعب الحوار وتُصعِّد القضايا إعلاميا، ووحدات المراجعة الداخلية، كمن ألقي في اليم مكتوفا فمات غرقا، فنحن بهذا أمام معضلات تحتاج إلى حل استراتيجي، حل دائم، ومرجعية رقابية واضحة، ونظام حوكمة فعال، وأنا أدعو من خلال هذا المقال إلى إنشاء مجلس رقابي أعلى.
نحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إنشاء مجلس رقابي أعلى، مجلس ذي صلاحيات شاملة، مُشَكَّلٍ من أعضاء في مجلس الوزراء، مرتبط مباشرة بالملك، وهذه الفكرة تشبه نوعا ما فكرة لجان المراجعة في الشركات، فمجلس الوزراء الذي يدير جميع شؤون الحكومة، يحتاج إلى مجلس منبثق، هدفه تتبع التقارير الرقابية الصادرة عن الأجهزة الرقابية، والبت في كل هذه التقارير ومتابعة التوصيات وتنفيذها، وله حق استدعاء أي وزير أو مسؤول خاضع للرقابة، كما له حق الاجتماع برؤساء الأجهزة الرقابية كل فترة لتقييم الأعمال الرقابية، ومناقشة التقارير، ورفع ما يلزم إلى المقام السامي، نحتاج إلى هذا المجلس حتى يعتمد خطة استراتيجية رقابية، أهدافها واضحة، ويضع لكل مؤسسة رقابية دورا في تحقيق هذه الأهداف لا يتعارض مع غيرها من الأجهزة.
فهذا المجلس يضع خطة استراتيجية للرقابة في المملكة، ووضع كل مؤسسة رقابية في الخطة أهدافها ودورها في ذلك، ثم يحدد لها مواردها ومصادر تلك الموارد، ومن حق المجلس الرقابي أن يناقش كل مؤسسة بعد فترة معينة عن تحقيق الأهداف المرصودة، وأن يناقش الموارد، فليس من المصلحة أن يكون لمؤسسة ما ميزانية مفتوحة، ينعم موظفوها بمميزات وصلاحيات واسعة تجعل الجميع يتسابق للعمل فيها، بينما جهة رقابية أخرى تكاد تختنق من شح الموارد، ويهرب الموظفون منها ومن بيئتها، ثم تجد أن الجهات كلها بلا أهداف محددة وتنسيق واضح واجتماعات دورية مشتركة، هنا يأتي دور المجلس الرقابي الأعلى لحل الإشكالية، وتنسيق الأعمال، وتوزيع الموارد والأدوار.
ليس هذا فحسب، بل يستطيع المجلس الأعلى أن يقدم دعما لا محدود لكل جهة رقابية، من خلال التفاعل المستمر مع القضايا المطروحة، ويعزز استقلال هذه الجهات بصورة هائلة جدا، فالمجلس الأعلى هو الذي يحدد ميزانية كل مؤسسة رقابية، مما يجعل هذه الأجهزة مستقلة عن تأثير وزارة المالية، إضافة إلى ذلك يعمل المجلس الرقابي على ترشيح من يتم تعيينه لقيادة هذه المؤسسات، وهو الذي يتولى تقييم أعماله وإنجازاته، أضف إلى ذلك أن المجلس المقترح يعزز من استقلال الجهات الرقابية من خلال مناقشة الجهات التي لم تتعاون مع الأجهزة الرقابية، واستدعاء المسؤولين. فهو يدعم صلاحيات المؤسسات الرقابية، ويخرجها من مشكلة تهديد الموضوعية والحياد التي تلازمها.
وهكذا يعمل المجلس على ثلاثة مستويات: مستوى التخطيط الاستراتيجي للعمل الرقابي، مستوى تقييم وتطوير الأداء الرقابي، مستوى التقارير الرقابية والمسألة ورفع التوصيات للملك ومجلس الوزراء. وهو بهذا يمثل حلقة مهمة جدا، ويملأ ثغرة نظامية نفذت منها معظم الجهات التي لم تكن ترى في الجهاز الرقابي سوى من رفع تقريرا ونسيناه، أو كما يقال في المثل العسيري المشهور "كمن يرمي من وراء الصف".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي