رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الرياضة النسوية للصحة.. ولا شيء آخر

عندما يأخذ موضوع مثل تخصيص حصة للتربية الرياضية للطالبات حيزا كبيرا من النقاش العام وتحميله ما لا يحتمل فلا بد من الاعتراف بأن لدينا حالة مرضية في ثقافتنا المجتمعية تتعلق بطريقة تفكيرنا وأسلوب تناولنا للمبادرات وعمق فهمنا لمقاصد المقترحات الجديدة. هناك حالة من الريبة والشك والتوجس والخوف تسيطر على أولئك الذين يرون التطوير والتجديد هدما لثقافتنا وتهديدا لثوابتنا الوطنية. وهم بذلك يخلطون بين المألوف والمعتاد والقيم والمبادئ الجوهرية للمجتمع. ليس ذاك فحسب بل يتعدى الأمر في فرض رؤيتهم على الآخرين فيتلبسهم شعور بأنهم حماة المجتمع من الفساد والمفسدين والسد المنيع للتغيير والتطوير حين يسمون التطوير بمسميات استفزازية تارة بالتغريب وتارة بالمؤامرة، وهذا في الحقيقة إنقاص من قيمتنا الثقافية التي جعلناها ضعيفة وجلة وكأنما لا تقوى على التكيف والوقوف أمام كل جديد. هذا الانغلاق هو انغلاق وهمي يعشش في عقول من يرون أنهم الوحيدون من يحق لهم تحديد ما يصح وما لا يصح للمجتمع. ذلك أن التغير سنة كونية نلحظه في أنفسنا وفي المجتمع والبيئة الطبيعية من حولنا، ويخطئ من يعتقد بثبوت الأشياء لأن ذلك ضد مبدأ إعمار الأرض وإصلاحها. الثابت الوحيد هي القيم والمبادئ، أما الوسائل والتقنيات وطرق العيش فالناس أعلم بأمور دنياهم. هذه الحالة من الانغلاق في التفكير ليست فقط تعطيلا للتنمية الاجتماعية والقوة الاقتصادية، ولكن الأدهى والأمر انحسار وضعف لثقافتنا وجعلها في حالة الدفاع بدلا من حالة المبادأة والفعل النشط والتأثير في الثقافات الأخرى. وربما قاد ذلك إلى تهديد كينونتنا الثقافية وجوهر قيمنا فيقع ما نخشاه بسبب خشيتنا مما لا يفترض أن نخشاه! إن أفضل طريقة لإدارة التغير هي إحداث التغيير ابتداء، ولذا فإن أسلوب المنع لن يكون مجديا وإنما التفكير الاستباقي لما يجب فعله حتى يكون التغيير منسجما مع قيمنا الثقافية. إن من الخطأ اتباع سياسة المنع من باب الحيطة والحذر دون مبرر منطقي وعملي ودون التفكير بوعي بالمقاصد العليا والمنافع المتوخاة. فقد تفوت الفرصة للتطوير داخل إطار القيم الثقافية للمجتمع لنفاجأ بظواهر اجتماعية خارج المشترك الثقافي تنافي الدين والعقل والمنطق، وهذا ملاحظ في حالات وأوضاع اجتماعية كثيرة. الغريب أن هناك قيما فاضلة ومهمة في ثقافتنا الإسلامية معطلة ولم تأخذ نصيبها من الاهتمام بقدر ما تأخذه موضوعات هي في الأصل ليست موضع خلاف ولا تخرج عن الإطار الشرعي والقانوني. على سبيل المثال قيم الزهد واحترام الوقت والإنتاجية والإحسان وبذل المعروف انحسرت وتبدلت وأصبح الجميع حتى أولئك الذين يرون أنفسهم حماة الفضيلة والسد المنيع للتغيير لا يلتزمون بها. لقد سيطر على المجتمع التناكف والتحزب والاصطفاف الفكري وأصبح كل فريق يسعى جاهدا لتسطيح أفكار الآخر ويقلل من قدره ويكيل له الاتهامات جزافا وربما بلغ الأمر التشكيك في دينه ووطنيته. وهذا اختلاف غير محمود لأن طاقة التفكير تبذل في غير محلها ودون طائل فهي لا تطور مجتمعا ولا تزيد من قوة الاقتصاد ولا ترفع مستوى الإنتاج والإبداع. إن الناظر المتبصر فيما يدور في مجتمعنا من حوار ونقاش بين النخب يجد أنه إغراق في الجزئيات والموضوعات الهامشية وهو أمر مخيف وخطر لأنه يعبر عن غفلة مجتمعية عن الأولويات وسيكون من الغباء التشاغل عن التحديات الجسام المحدقة بنا والتي أصبحت بمرور الوقت أكثر وضوحا وأقرب تهديدا.
اعتراض البعض على التربية البدنية يعيد للأذهان الاعتراض على تعليم الفتيات في بداية الستينيات من القرن الماضي بل حتى أنه كان هناك من يجرم استخدام التقنيات الحديثة. ولك أن تتصور كيف سيكون عليه مجتمعنا لو لم يفرض تعليم الفتاة. الاعتراض في ذلك الوقت كما هو في الوقت الحاضر لم يكن مبررا، منطلقه العادات، فالناس أسارى ما اعتادوا عليه ولا يحبذون التغيير ويركنون للمألوف. إن تقبل التغيير بل السعي في إحداثه يتطلب القدرة الذهنية والنفسية والثقافية والنظرة الموضوعية العقلانية في رؤية الأشياء على حقيقتها واستيعاب المستجدات والتنبؤ بالمستقبل والتفكير بوعي. وربما قلل أحدهم من شأن الرياضة المدرسية للطالبات بسبب ضيق تصوره للاحتياجات والدوافع الإنسانية وقلة معرفته التربوية وضحالة ثقافته الصحية فيعمد إلى ترديد ما يقوله الآخرون دون تحليل ومراجعة وتفكر وتدبر. وقد يعزز ذلك تصور خاطئ عن التربية البدنية للطالبات منطلقه العيب ومخالفته المعتاد وبالتالي يسارع البعض بأحكام سلبية مسبقة! لكن أليس من حق الفتاة أن تحافظ على لياقتها البدنية كما أخيها الطالب؟ أليس من حقها أخذ قسط من التدريبات الرياضية خلال الأسبوع الدراسي؟ ما المانع أن تتعلم الطالبة قوانين لعبة رياضية؟ إن الرياضة أكثر من اللهو هي تعليم للانضباط والعمل الجماعي والترويح المباح والتنفيس للطاقات، إضافة إلى الصحة النفسية والبدنية. لقد كانت الأمهات الأوائل نشيطات يعملن في الحقول والمراعي وتشارك المرأة الرجل في تدبير أمور الحياة وتقاسمه أعباء المعيشة فكانت صحيحة البدن والنفس. لكن الحياة تبدلت فأصبحت المعيشة في المدن تفرض نمط الاسترخاء وقلة الحركة، وتغير دور المرأة في المجتمع وزادت ضغوط الحياة فقل نشاطها البدني. جميع ذلك يستدعي الاهتمام بالصحة البدنية للطالبات وتشجيعهن على مزاولة الرياضة بالطريقة الصحيحة وبإشراف خبيرة تربوية. إن انتشار أمراض مثل السكري والضغط في المجتمع بمعدلات مخيفة مرده أسلوب الحياة الخالي من النشاط البدني وهو مؤشر ينذر بأخذ الحيطة والعمل على تثقيف الفتيات بأهمية مزاولة الرياضة. والمدرسة شريك أساسي في تربية الأبناء والبنات ويقع على عاتقها تنميتهم فكريا ونفسيا وبدنيا، وأخشى لو لم تقم وزارة التربية والتعليم بفرض حصة للتربية البدنية أن يأتي اليوم الذي يوجه إليها اللوم ولن يقبل من المسؤولين أن يقولوا إن البعض لا يرغبون ذلك، لأن مسؤولية الجهاز الحكومي تحقيق المصلحة العامة داخل إطار الثوابت الوطنية التي لا يمكن إدراكها فرديا. وخلاصة القول.. الرياضة النسوية للصحة.. ولا شيء آخر!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي