رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


العقوبة القضائية.. لا تتشفى

لقد لفت انتباهي مقال بعنوان "يا بلاش 18 شهرا عقوبة للمتحرش". في جريدة "الوطن" السعودية، أما وقد ارتأى الكاتب العزيز مناقشة الحكم في رق منشور، فقد فرض علينا انتهاج نهجه، والسير في الطريق الذي سلكه لتقديم رؤية أخرى لم ترتض ما انتهى إليه المقال. دون إخلال بفروض التقدير الكبير لكاتبه لكوننا من قوم يكرهون الرأي ويمجونه، ويحبون صاحبه غاية الحب ويقدرونه غاية التقدير. وتلك من شمائل العقل، ودلائل الخير فيه. أحسب أن فضيلة القاضي الذي أصدر الحكم القضائي على المتحرش كان يبصر الفارق الكبير بين الشريعة والقانون، والمقالة مارست القياس مع اختلاف المقيس عن المقاس عليه، وحين تنعدم المساواة في الموضوع يسقط القياس. ويكون القياس باطلا.
العقوبة القضائية في الشريعة يا سيدي.. لا تتشفى، والعقوبة فيها لا تنتقم، ولا تنكل بالفرد بغية أن يرتدع غيره بالعذاب الذي صُب فوق رأسه، فيتحول الجاني إلى ضحية من ضحايا العدل، وضحية من ضحايا ضمير المجموع وهو القضاء، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" المائدة آية (8).
لأن في ضمير فضيلة القاضي الذي قرر الحكم "الغاية لا تبرر الوسيلة" وليس من شريعة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُعاقب جانٍ بأكثر مما يستحق من العقوبة، وبأكثر مما تُجزيه بالردع عن العودة إليها. وهذا يتنزل في منازل مختلفة بحسب حال الجاني ونوازعه وأسباب الجريمة والغواية والقوة والضعف والسفه والرشد والسبب والمسبب.
وإن تلك الغايات الاجتماعية وغيرها التي يفترض المقال أنها تجيز لنا أن ننتهك وأن نتجاوز عن حق - الجاني المحكوم - بالحكم عليه بالعدل، وأسباب الرحمة مع استحقاقه لها. لغاية أخرى هي أجنبية عن الحكم، وبعيدة كل البعد عن أسبابه وهنا يكمن جوهر الفرق بين عدالة السماء وعدل البشر، هنا يتجلى ظهور ضمير القاضي الذي يخشى الله في مظالم العباد، وبين من يريدنا أن نفكر بعقل الغايات التي تبرر الوسائل التي تعتبر جناية الفرد سببا كافيا لجعله ضحية لظلم هو أكبر منه، ولنجعل منه ضحية لعقوبة هو لا يستحقها بذنبه ولا يفرضها علينا حدود الجناية منه.
يا سيدي الفاضل..! إن التهكم البادي في مقالكم على فضيلة الشيخ القاضي، لسلوكه الذي تتبع فيه آثار نبيه المصطفى الذي كان يأتيه الرجل راشدا في تمام إدراك وبصيرة وبحضور حوارييه وصحابته فيقول يا رسول الله: إني زنيت فطهرني! فيجيبه: لعلك قبلت! لعلك.. لعلك!. يلتمس له سبيلا من سبل الخلاص، وينهج به طريقا يتسع له ليتوب بعيدا عن العقوبة المتلفة له، والمخزية لمن ينتسب إليه!
وقد تبصر فضيلة القاضي، حين وجد أن هذا سلوك نبوي لم يتركه، ولم يتراجع عنه طوال عمره الشريف، ورغم الإقرارات المتوالية كان في جميعها زاهدا في العقوبة، مبغضا لتمامها، كارها لتمام شروط القبول فيها. ولم ينهج في واحدة منها ذرائع "الغايات التي تبرر مقدماتها المحرمة" في التنكيل بالجاني، ولا جعله عبرة لمن لا يعتبر. وبقي على كاتبنا العزيز.. أن يبصر أن في كل حكم سبيلا طويلا سار فيه ضمير القاضي حتى منتهاه، وأن ليس من سبيل لفضح المستور، ولا كشف المكنون، ولا تعرية العصاة على رؤوس الأشهاد. وبمقدار ما يوغل الصحافيون في التهكم على أحكام قضائية غابت عنهم أسبابها المنتجة، يلوذ القاضي بالصبر الجميل ساترا ما الله ساتره على خلقه من العيب والضعف وما يعوزه الستر والمغفرة.
أصاب القاضي أكثر من مرة واحدة.. فخذ أنت عقوبات النكال التي تريدها وألقها على ضمير غير ضمير القضاء وعدله. إن الضمير الحي لا يحتمل الظلم ولا يستطيعه ولا يقدر عليه!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي