غواية التقاضي

عاشت قلوب لها بقية فينا، وهي تتطهر مع كل فجر من الغل النائم، ومن الحقد المستيقظ، حين يقبض الرجل منهم على سبب واحد من أسباب المغفرة والصفح والتسامح .. بشفاعة أو اعتذار متواضع ولو بالملمح والكناية، كان يكتفي به، ويستغني به عن غيره، ولا يحتاج إلى سواه من مهانة المذنب أو صريح العذر والجهر به. وسرعان ما تتحول تلك العداوة البادية إلى مودة صادقة، وتلك الخصومة المستعجلة إلى أخوة طاهرة عفيفة من دخائل الخبث، وكيد الضغائن.ربما لأنهم في قرارة أنفسهم، وفي إدراك عقولهم أن القوي هو وحده القادر على الصفح والمغفرة وإسباغ الحب على من أساء إليه .. اذهبوا فأنتم الطلقاء .. هي الذات الكبيرة التي تمنح المغفرة والحب الصادق الطاهر "والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين" آل عمران الآية 134. هذه الروح هي التي تمثل شريعة المجتمع المسلم، وتمثل قيمه وقيمته، التي تجعله يتلمس العفو وكظم الغيظ، وسلوك الإحسان .. لقد تحمست أوروبا في إطار صيانة حقوق الأفراد لتغليب التقاضي على التسامح والمغفرة .. واليوم يخشى الرجل أن يمد يده إلى امرأة تغرق خشية أن تتهمه بالتحرش، أو أن يتدخل لإنقاذ أحد خشية أن يقاضيه بتلف الباب قبل أن يصل إليه، وبات هناك محامون متفرغون لهذا النوع من القضايا .. وبات هناك فئات من العاطلين يستعينون بمحامين لإيجاد الأسباب المقنعة للقضاء لحصولهم على تعويض مرتفع .. ثم يسعى إليه، ويتربص بنفسه كل مقدماته. وتنامى هذا المرض حتى لم تنج منه الأم التي حملته وهنا على وهن، وكفلته صغيرا ضعيفا عاجزا حتى استوى. إن الأمر لم يبدأ هناك من هذه الحدة، وهذه الزاوية القاسية جدا من السلوك، لقد بدأ هناك كما هو الآن عندنا .. شتيمة يتشبث بها صاحبها كأنها فرصة للربح .. معرضا بجانبه عن كل عذر رافضا كل شفاعة، مقبل على القضاء وفي نفسه الطمع في البذل والفرح بالعقوبة إن تعزيز التقافز للمحاكم، والركض إليها بثقافة ــــ حقوق الفرد وصيانتها ــــ ليس خطأ في نفسه .. إلا أني أدعي أن العقوبة تعزز الكراهية أكثر، وتورث ذاك الحقد البغيض الذي يموت معه صاحبه. وإن جسر العودة والتلاقي بين الطرفين.. سيسقط بما لا يمكن العبور عليه مرة أخرى.
إن ذاتك هي ذاتك بكمالها ونقصها، بعيوبها، وحسناتها .. وإن الذكر الجميل من محبيك لا يزيدك كمالا .. كما أن ذكر بعض الناس لعيبك ونقصك، وصفات الضعف من فكرك .. لن يخزيك عند ربك .. وينبغي ألا تفعل أنت ذلك بنفسك .. في أكثر المرات تأتي الكلمة السيئة في حقنا، لتحمينا من النرجسية، ولتحمينا من عضال تعاظم الذات، ولتحمينا من الطرد من رحمة الله، ومن قربه .. بسبب تعاظم النفس في نظر صاحبها. لأن أول "أنا" ظهرت في السماء "قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" فطرده الله من رحمته، وطرده من جواره. وأخرجه من جنته. وكان عليه سخط الله إلى يوم يبعثون. بقي أن نعلم .. أن هذا وبال عظيم إن أدمنت المجتمعات عليه لن يجد أحد سبيلا للخلاص منه، ولن يقبض طبيب على سبيل واحد لعلاجه. وسيشغل القضاء بالقيل والقال، وسيمشي بين الناس ساقيا كل ضغينة، محرضا على كل خصومة، متسببا في كل فتنة. إذ لعل من عصارة التقاضي يظفر بالعوض ويغنم الربح، مع غواية المنتفعين بها، المستدفئين بنارها .. ولو أحرقت بعد حين الأخضر واليابس .. وصدق الله العظيم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". بها يقود مجتمع الضمير نفسه، وبها يهتدي لصلاحه وخيره ومغفرته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي