عوامل ازدهار شركات خدمات الطاقة .. كوريا نموذجا
المقال السابق وصف بإيجاز عمل شركات خدمات الطاقة ESCOs ودورها في تحسين كفاءة استهلاك الطاقة في المنشآت كافة. مقال اليوم سيركز على العوامل التي ساهمت في ازدهار نموذج ESCOs في كوريا والخطوات التي اتخذتها الحكومة لبناء صناعة متكاملة اعتمدت على الاستثمار في تحسين كفاءة استهلاك الكهرباء على الرغم من الدعم الحكومي لأسعار الطاقة الذي يهدف لزيادة المستوى التنافسي للصادرات الكورية. الجدير بالذكر أن معدل تكلفة استهلاك الطاقة الكهربائية للقطاع الصناعي الكوري لم يتجاوز 2.2 في المائة من إجمالي تكلفة التشغيل في منتصف التسعينيات. لذا لم يكن تخفيض تكلفة استهلاك الكهرباء من أولويات المنشآت الصناعية "كما هو الحال لدينا"، الأمر الذي يتطلب توفير العناصر اللازمة لتهيئة البيئة الاستثمارية المناسبة لدعم صناعة تعتمد بالكامل على تخفيض نسبة هدر الطاقة. ونظرا لطبيعة المخاطر المالية والفنية التي تتحملها ESCOs، حيث ترتبط مستخلصاتها بحسن أداء المشروع المتمثل في تحقيق تخفيض فعلي وملموس في نسبة استهلاك الكهرباء، إضافة إلى انخفاض المعدلات المقبولة لمستويات العائد المالي لتلك المشاريع نتيجة الدعم الحكومي لأسعار الطاقة، قامت الحكومة في عام 1993 بتعديل اللوائح المتعلقة بقانون "الاستخدام الرشيد للطاقة" وأجازت تقديم دعم مالي مباشر لـ ESCOs. طبيعة هذا الدعم يتلخص في تقديم قروض منخفضة التكاليف وطويلة الأجل لـ ESCOs إضافة إلى حوافز ضريبية أخرى تجعل الاستثمار في مشاريع خدمات الطاقة أكثر جاذبية وأقل خطرا. فقامت الحكومة بإنشاء صندوق خاص لهذا الغرض وفرضت رسوما إضافية على الواردات النفطية لتشكل المورد الرئيس للصندوق. وتولت مؤسسة إدارة الطاقة KEMCO مسؤولية اعتماد القروض بناء على الدراسات الفنية لـ ESCOs، بينما عمليات الإقراض نفسها كانت تتم من خلال مؤسسات مالية مؤهلة. توفير عنصر الدعم المالي كان مفصليا لإنجاح هذه الصناعة الوليدة، إلا أن مؤشرات أداء الشركات لم تكن مشجعة في السنوات الأولى.اصطدمت ESCOs أثناء تسويق خدماتها بعقبة ثقافية لم تكن في الحسبان. فعلى الرغم من أن ESCOs تتحمل كامل المخاطر المالية والفنية للمشروع إلا أن الطبيعة النفسية لمديري المنشآت في كوريا كانت متحفظة ولا تتقبل بسهولة الممارسات الجديدة. حينها أدركت مؤسسة إدارة الطاقة KEMCO أن ازدهار صناعة ESCOs مرهون بإثبات فعاليتها وذلك من خلال "إقحامها" بقوة في القطاع العام كخطوة تمهيدية. فإن قدمت ESCOs نتائج مقبولة في القطاع العام، حينها تصبح المنشآت الخاصة أكثر تقبلا وانفتاحا للخدمات التي تهدف لخفض مستويات هدر الطاقة.
فقامت مؤسسة إدارة الطاقة KEMCO بالتعاون مع وزارة الطاقة بإقناع وزارة المالية بضرورة تعديل اللوائح الخاصة بتوريد خدمات القطاع العام بحيث تجيز للمؤسسات الحكومية التعاقد مع ESCOs لعدة أعوام بدلا من التقيد بميزانياتها السنوية. في الوقت ذاته لم تغفل المؤسسة أهمية جانب تطوير الموارد البشرية العاملة في إدارة المنشآت العامة والخاصة لكسر الحواجز النفسية التي قد تقلل من فرص تقبل فكرة الاستثمار في الحد من هدر الطاقة. فحتى لو لم يكونوا أصحاب القرار النهائي في خوض التجربة مع ESCOs، فحتما سيكون لهم دور مهم في التأثير في قرار المنشأة. فقد نظمت مؤسسة إدارة الطاقة دورات تدريبية وورش عمل ساهمت في تثقيف المهندسين والمهنيين العاملين في المنشآت كافة لفهم الدور الكامن لـ ESCOs وإقناعهم بأن الفائدة ستطال كل الأطراف.
بعد إقرار التعديلات على اللوائح الخاصة بتوريد خدمات القطاع العام، والسماح للمنشآت العامة بالتعاقد لأكثر من عام، كانت أول تجربة في إحدى المجمعات الحكومية عندما قامت إحدى شركات خدمات الطاقة باستبدال نظام الإنارة بآخر أكثر كفاءة وذلك في عام 1998. وبالفعل، نتج عن تشغيل المشروع توفير مباشر في استهلاك الكهرباء قدره 100 ألف دولار في السنة (8300 دولار في الشهر)، بينما نص الاتفاق بأن تتحصل الشركة المنفذة مبلغ 7500 دولار شهريا لمدة 29 شهرا. إجمالي تكلفة المشروع كان 180 ألف دولار "تم توفيره من خلال القرض الميسر من صندوق مشاريع خدمات الطاقة"، بينما إجمالي ما تم تحصيله من المنشأة الحكومية مبلغ 217 ألف دولار "من القيمة التي تم توفيرها من خفض استهلاك الكهرباء فكان إجمالي التوفير للمنشأة 800 دولار لأول 29 شهرا". منذ نجاح هذا المشروع في المبنى الحكومي، قفز عدد مشاريع خدمات الطاقة من 25 إلى 519 بين عامي 1997 و2000 وارتفعت قيمة الاستثمارات من أقل من ستة ملايين دولار إلى أكثر من 75 مليون دولار في الفترة نفسها كدليل قاطع على ازدهار هذه الصناعة. الخلاصة أن ازدهار صناعة شركات خدمات الطاقة لم تكتف بالدعم المالي فحسب، بل إن الدعم المؤسسي كان الفيصل في كسر الحاجز النفسي للقطاع الخاص لتقبل فكرة الاستثمار في تخفيض مستويات هدر الطاقة.