صناعة تمويل كفاءة الطاقة .. شركات خدمات الطاقة مثالاً

نعلم جيدًا مدى تسارع استهلاكنا المحلي للكهرباء، وما يفرضه على الاقتصاد الوطني المحلي من تحديات بالغة التعقيد، التي من أبرزها اتساع الفجوة بين الإمداد والطلب خلال أوقات الذروة وإن كانت وجيزة. ومن المعروف أن التوجه الحالي لتدارك آثار تلك التحديات يعتمد على زيادة الإمداد، من خلال تمويل مشاريع ضخمة جدًّا لزيادة السعة الإنتاجية للكهرباء. وعلى الرغم من أنه لا يستفاد من بعض محطات التوليد إلا أيام عدة خلال أوقات الذروة في الصيف، تقوم شركة الكهرباء سنويًّا بترسية مشاريع مليارية تتجاوز مواردها المتاحة، ما يشكل ضغوطًا كبيرة على كفاءة إدارة أولوياتها. هذه الضغوط لا تقلل أبدًا من إنجازات الشركة، بل من المهم الإشارة إلى أن السبب الجذري للتحديات التشغيلية القاسية التي تواجه الشركة في الوقت الحاضر، يعود إلى السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الدولة منذ عقود، المتمثلة في مقاومة إصلاح سياسة دعم أسعار الطاقة لاعتبارات تتجاوز موضوع المقال.
من جهة أخرى، هناك جهود لضبط مستويات الطلب على الكهرباء، من خلال إطلاق حملات توعوية للمستهلكين، والتنسيق بين عدة جهات لمنع استيراد أو تصنيع أجهزة ذات كفاءة متدنية، أو معدات رديئة تهدر الكثير مما تستهلكه من كهرباء. كل هذه الجهود تندرج تحت مسمى "إدارة الطلب"، ومن أبرز أدواتها تحسين "كفاءة الطاقة". الحقيقة أن هناك صناعات كبيرة ومتقدمة محسوبة على كفاءة الطاقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أصبح الكثير من منتجي الكهرباء حول العالم يتجهون نحو استبدال المولدات ذات الدورات البسيطة بأنظمة أكثر تعقيدًا، المعروفة بالمولدات ذات الدورات المركبة، وذلك لزيادة نسبة إنتاج الكهرباء التي تصل في بعض الأحيان حتى 50 في المائة من دون أي زيادة في نسبة استهلاك الوقود. إجمالاً، لم نتمكن من الاستغلال الأمثل للكثير من أدوات كفاءة الطاقة لأسباب عديدة. أصدر المعهد الملكي للعلاقات الدولية المعروف بـ "تشاثام هاوس" تقرير بحث متميزًا في هذا الشأن بعنوان "إنقاذ النفط والغاز في الخليج"، وصف فيه مجمل تحديات دول الخليج المتمثلة في هدر مواردها الطبيعية، وتوجهاتها لتدارك تلك التحديات (أغسطس، 2013). ما استوقفني في هذا التقرير الشامل الذي استغرق إعداده عامين، والمعتمد على إجراء 60 ورشة عمل مع الجهات المختصة، أنه لم يتطرق بالتفصيل إلى توجه المملكة لتوظيف نموذج "شركات خدمات الطاقة" المعروف بـ (ESCOs). والغالب أن الجهات المعنية فَضَّلت عدم التصريح بتفاصيل خططها إلا بعد الحصول على اعتماد الجهات الرسمية لتوظيف هذا النموذج، إلا أن فريق البحث نفسه أشاروا في تقرير آخر سابق إلى أن "بعض الدول" في الخليج تتجه نحو تطبيق نموذج (Super ESCO) بدون تفصيل كاف (مايو، 2013).
قبل أكثر من عامين حضرت اجتماعًا مصغرًا لمختصين في تطوير وتمويل البنى التحتية في مختلف أنحاء العالم، وكان ضيف الشرف الدكتور صالح بن حسين العواجي، وكيل الوزارة لشؤون الكهرباء. كان من أبرز ما ذكره الدكتور هو ضرورة أن تستفيد بلادنا من تطبيق نموذج (ESCO) كذراع مهمة في قطاع "كفاءة الطاقة". حينها لم أكن أعلم ما كان يحمله المصطلح من معانٍ، ومن حسن الحظ كلفت بعمل بحث مصغر عن هذا النموذج لفهم تطبيقاته، لعلي أستقرئ الخطوات العملية اللازم اتخاذها لتبني هذا النموذج في المملكة. مقال اليوم سيقتصر على تعريف نموذج (ESCO) بشكل عام قبل التطرق إلى ما فعله الآخرون لإنجاح هذا النموذج وتطويعه كأداة فاعلة في تخفيض الفاقد من استهلاك الكهرباء في المقال القادم. يتركز عمل شركات خدمات الطاقة على تطوير أداء استهلاك الطاقة لمنشأة ما (حكومية، صناعية، تجارية.. إلخ)، وذلك من خلال القيام بمسح شامل لكل ما يستهلك الطاقة في المنشأة من معدات ومحركات وإضاءة وأجهزة التكييف والتسخين لاستكشاف مواطن الهدر. ثم تقوم (ESCO) بناء على نتائج المسح بتقديم خطة متكاملة لتحسين كفاءة الطاقة داخل المنشأة التي قد تشمل استبدال الكثير من المعدات والأجهزة الرديئة لتخفيض نسبة الهدر، ما يؤثر إيجابًا في تخفيض تكلفة التشغيل. إن وافقت إدارة المنشأة على تنفيذ الخطة، تقوم (ESCO) بتمويل كل ما يلزم لتنفيذ مقترحاتها، وبالتالي تتحمل المخاطر الفنية، والأهم من ذلك مخاطر أداء المشروع الناتج عن تنفيذ الخطة. وبناء على نتيجة أداء المشروع، تقوم المنشأة بتقديم دفعات مالية لـ (ESCO) تشكل نسبة معينة من قيمة التكلفة المخفضة لمدة متفق عليها مسبقا، وذلك بحسب عائد المشروع على الطرفين. لنفترض، على سبيل المثال، أن معدل تكلفة استهلاك الطاقة للمنشأة تساوي 100 ريال شهريًّا قبل تنفيذ المشروع، وبعد التنفيذ انخفضت التكلفة إلى 70 ريالاً شهريًّا. في هذه الحالة تستحق الشركة المنفذة (ESCO) تسلم مستحقاتها على دفعات شهرية لا تتجاوز 30 ريالاً لمدة متفق عليها مسبقًا تصل إلى عدة أعوام، بحيث تغطي تكاليف وأرباح تنفيذ المشروع. وحتى يكون عائد المشروع أكثر جاذبية لإدارة المنشأة، تحرص شركة خدمات الطاقة على أن تكون دفعات مستحقاتها أقل من القيمة التي تم توفيرها؛ حتى يتسنى للمنشأة الاستفادة من المشروع فور التشغيل. بمعنى آخر ينص الاتفاق على أن تقوم المنشأة بدفع 25 ريالاً شهريًّا لـ (ESCO)، فتوفر المنشأة خمسة ريالات شهريًّا بعد تشغيل المشروع مباشرة. وبعد انتهاء مدة الاتفاق التي تصل لعدة أعوام، توفر المنشأة الـ 30 ريالاً كاملاً، إضافة إلى التوفير الناتج من تخفيض تكاليف الصيانة التصحيحية الناتجة عن استبدال المحركات الرديئة. طبعًا، هذا تعريف مبسط لـ (ESCO)، وهناك أمور أخرى يجدر بالمهتمين معرفتها خاصة فيما يتعلق بالبروتوكولات المتبعة في احتساب نسبة التوفير. وبينما تُعِدُّ الجهات المختصة الخطط اللازمة للاستفادة من شركات خدمات الطاقة التي قد نسمع عن تفاصيلها قريبًا، سأنقل لكم تجربة كوريا في هذا المجال، وذلك لأن ظروفها وتحدياتها كانت تشبه إلى حد كبير ظروفنا في المملكة، التي من أبرزها انخفاض نسبة تكلفة استهلاك الكهرباء من تكلفة التشغيل للمنشآت نتيجة دعم أسعار الطاقة، وبالتالي يهمنا فهم كيف دعمت كوريا هذه الصناعة لتتجاوز الصعوبات المالية والعقبات الثقافية إلى نتائج تستحق التقدير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي