انتعاش منطقة اليورو هش وبحاجة إلى رعاية

انتعاش منطقة اليورو هش وبحاجة إلى رعاية

لا يزال أمامنا قدر كبير لنتعلمه من الأحداث الاقتصادية التي وقعت في السنوات السبع الماضية، لكننا على الأقل في وضع يخولنا أن نرفض اقتراحين متطرفَين طرحا مرة بعد أخرى، خصوصاً في أوروبا القارية.
الأول، أن التقشف ليس له أثر سلبي دائم في الناتج الاقتصادي. والآخر، أن السياسة النقدية تفقد فعاليتها حين تقترب أسعار الفائدة الرئيسية التي يضعها البنك المركزي من الصفر.
وتعتبر بريطانيا مثالاً جيداً يبين ما هو الخطأ في الجملة الأخيرة. فإذا اتبع بنك إنجلترا السياسات النقدية الحذرة نفسها التي اتبعها البنك المركزي الأوروبي على مدى السنوات الست الماضية، لكان الانتعاش الاقتصادي البريطاني في وضع أضعف. وهذا يعني أن السياسة النقدية في بريطانيا ناجحة، وكذلك سياسة المالية العامة.
وهناك عدة أسباب تبين لماذا تستطيع السياسة النقدية أن تظل فعالة حتى عندما تكون أسعار الفائدة الاسمية قريبة من الصفر. السبب الأول هو أن الاقتصاد الحديث الذي يتمتع بسوقي أسهم وسندات قويتين يمكن التأثير فيه بطرق أكثر خيالاً من مجرد العبث بأسعار الفائدة على قصيرة الأجل. وفي الحالات التي تنقطع فيها آلية الانتقال من أسعار الفائدة الرسمية قصيرة الأجل إلى معدلات الإقراض في العالم الحقيقي، يصبح أفضل إجراء يمكن اتخاذه هو تشحيم أجزاء النظام التي لا تستطيع أسعار الفائدة قصيرة الأجل أن تصل إليها.
ولم يكن النجاح حليف جميع التجارب النقدية في السنوات السبع الماضية. مثلا، ما زلتُ لا أستطيع أن أرى منافع الإرشاد المتقدم، ليس من الناحية النظرية، وإنما من الناحية العملية. وأكثر السياسات النقدية ابتعاداً عن المألوف، وهي التسهيل الكمي، ربما تشكل مخاطر بحد ذاتها. ومع ذلك، نجحت هذه السياسة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وأدت إلى تخفيض أسعار الفائدة الطويلة الأجل في أجزاء معينة من أسواق المال.
ماذا عن منطقة اليورو؟ معدل التضخم الأساسي، الذي يستثني المواد الغذائية والطاقة، كان عند 0.7 في المائة في كانون الأول (ديسمبر).
ويوم الخميس قال ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، "إن هذا الرقم المنخفض للغاية ناتج عن شذوذ إحصائي يفترض أن يختفي في كانون الثاني (يناير)". لكن التصورات الاقتصادية الكلية التي أدلى بها في كانون الأول (ديسمبر) مسؤولو البنك نفسه تشير كذلك إلى أن التضخم المنخفض باق بين ظهرانينا. ومن المتوقع أن يصل في 2015 إلى 1.3 في المائة.
ويستهدف البنك المركزي الأوروبي نسبة تضخم على الأمد المتوسط تكون "قريبة من 2 في المائة، لكن أدنى منها". والبنك، شأنه في ذلك شأن البنوك المركزية الأخرى، يضع توقعاته الرئيسية في رسم بياني على شكل سلسلة زمنية. ويُظهر الرسم أن هدف التضخم على الأمد المتوسط يقع بالكاد ضمن نطاق النواتج المرجحة بصورة معقولة.
ولأن التوقع يأخذ في اعتباره آخر تخفيض أسعار الفائدة، الذي فُرِض في تشرين الثاني (نوفمبر)، فإنه عملياً يقول لنا إن البنك يتوقع أن يعجز عن تحقيق الهدف الذي وضعه هو – ما لم نعتبر أن الرقم المتوقع البالغ 1.3 في المائة قريب من نسبة 2 في المائة. ربما تكون هذه وجهة نظر بعض أعضاء المجلس الحاكم في البنك.
وأوضح دراجي أن البنك المركزي الأوروبي جاهز للتدخل، لكنه قال أيضاً في الأسبوع الماضي إن تخفيف السياسة النقدية لن يبدأ إلا بعد "تفاقم آفاق التضخم لدينا على الأمد المتوسط". ولأن دراجي أصلاً ليس متفائلاً تماماً بخصوص الآفاق الاقتصادية، فلا يرغب أحد في وقوع الظروف التي سيضطر فيها للوفاء بوعده.
والسياسات النقدية التقليدية الآن تلامس النهاية الدنيا القريبة من الصفر. وبالنظر إلى انقطاع آلية الانتقال النقدي، فإننا نمر الآن في موقف ربما تتغلب فيه السياسة غير التقليدية على التقليدية. وفي مقال سابق دافعتُ عن التسهيل الكمي. وهذا ما يزال خياري المفضل، لكن هناك أيضاً عدة خيارات أخرى متاحة، إلا أنها أكثر تطرفاً.
يستطيع البنك، مثلا، أن يتصرف وكأنه صانع للسوق في سوق جديدة للقروض المورّقة مالياً للشركات الصغيرة أو المتوسطة. وإذا أراد، فإنه يستطيع المساعدة في إيجاد هياكل في سوق المال من أجل الالتفاف على النظام المصرفي المعتل في منطقة اليورو، لكن هذه الإجراءات ستكون أكثر تطرفاً حتى من التسهيل الكمي.
وحين ننظر إلى منطقة اليورو من منظور الولايات المتحدة أو بريطانيا، من الصعب أن نفهم سبب تردد صناع السياسة – خصوصاً بالنظر إلى التقلص الشديد في الناتج الاقتصادي. وأحد الأسباب لذلك هو ميل محافظي البنوك المركزية إلى الاهتمام بمصالح بلادهم، على حساب السياسة المثلى لمنطقة اليورو ككل.
وهناك سبب آخر أعمق وأخفى، وهو انعدام التناظر في هدف التضخم نفسه. فهو صريح في أنه لن يقبل نسبة 2 في المائة، أو أعلى من ذلك، لكنه غامض حول النهاية الدنيا. وهذه ليست مجرد مشكلة فنية، لأن انعدام التناظر يؤثر على الجدل في المجلس الحاكم في البنك. مثلا، يينس فايدمان، رئيس البنك المركزي الألماني، لا يشعر بالقلق نهائياً من غياب التضخم، وبالتالي يعارض إجراء مزيد من التخفيض في أسعار الفائدة.
وهذا الهدف غير المتناظر يعطي الناس الفرصة للمجادلة بأن أي معدل تضخم منخفض لكنه موجب سيكون قريباً من 2 في المائة – وهي حقيقة صحيحة بالمعنى الحرفي الذي لا قيمة له إذا نظرتَ إلى نظام الأعداد من مسافة كافية.
وكان دراجي محقاً أمس في تحليله للآفاق الاقتصادية، فالانتعاش ضعيف وهش. وكان على حق أيضاً في قوله إن الأزمة لم تنته بعد.
وأتوقع من البنك المركزي الأوروبي أن يفعل المزيد، لكن علينا ألا نستهين بالقوى المعارِضة لاتخاذ مزيد من الإجراءات.

الأكثر قراءة