نون النسوة .. وحقوق العمل المسلوبة (1)
من العسير أن يتقبل العقل أن يبدأ السعوديون في - التأنيث - من حيث بدأ الآخرون، كثير من الخسائر، وأكثر منه كثير من الكرامة المهدرة، وأكثر منه كثير من العدل المؤجل.. والعدل المتأخر سينشأ من تلك البدايات الخطأ.. البدايات التي تفترض أننا سنعيد مرة أخرى اختراع العجلة، والتفكير في اختراع تكوين الدائرة.
إن خروج - نصف سكان المملكة - ''المرأة'' من التعطل إلى القوى العاملة، والقوى البشرية المنتجة، والمساهمة في الإنتاج، والخدمات، والصحة، والتعليم.. إن كل هذا يعد يقظة حميدة للمجتمع السعودي، وحركة تصحيح تتصف بالرشد، وتجعل المجتمع يتلمس الخلاص من قالب المجتمع الريعي، إلى قالب المجتمع المنتج والحي الذي يصنع حاضره، ويضع الملامح الكبرى لمستقبله. وهذا ما يجعل قوائم المبتعثين تطول ولا تقصر، تزيد ولا تنقص، تتسع ولا تضيق.. ودون أن يكون بينهم فاصل ولا تمييز في المؤنث والمذكر، بين الرجل والمرأة. الوحدة الجامعة هنا هي التأهيل والمستوى العلمي والاستحقاق.
إن العقل الجمعي للسعوديين، وشخصيتهم الفكرية بدأت تتغير، وبدأ المستقبل ينازع الحاضر ملامحه، ويستعجله التبديل والتغيير لكل الأفعال والصفات التي يرفضها، التي تنتسب إلى عدو المجتمعات الأول والأخير وهو الجهل. الجهل بالذات، والجهل بالواقع، والجهل بالسبيل والخلاص.
هذا التغيير الذي يغيرنا أكثر مما نغير نحن فيه، ونستجيب لنتائجه أكثر مما نصنعها، الجميع اليوم في استجابة من لا يستطيع أن يمانع نفسه عنه، ولا يستطيع أن يقف أمام طوفانه العظيم المغرق لكل شيء أمامه.
هذا ما جعلني - وغيري - نشعر بأن بداية دخول ''نون النسوة السعودية'' إلى سوق العمل بشكلها الأعم، المستوعب لسوق التجزئة، وبعض وحدات الإنتاج الصغيرة. كانت بداية ناقصة وغير تامة.
فقد كنت أتأمل أولا هذه القيمة المرذولة في قيمتنا - الذاتية - كسعوديين، وشعرت بالذعر في إنفاق المال العام في غير موضعه الصحيح، ودون مبرر مستساغ، ومع الأسف هو لصالح الأقوياء والتجار، على حسب نون النسوة كما جرت بذلك سنة السلوك في هذا المجتمع المذكر حتى في صفاته النفسية، وسلوكه الجمعي. ولهذا وقفات تحليل وقراءة في الدلالة والانعكاس لهذه الطبيعة على المجتمع وعلى التنمية والفساد المالي والأخلاقي.
ولكي تتضح الصورة أكثر: كان التاجر، ومالك المحل، يوظف (مقيما) بائعا في المحال النسائية، براتب لا يقل عن أربعة آلاف ريال، ويتحمل تكاليف الاستقدام، والإقامة، والسكن والعلاج، وتكاليف السفر، ويضاف عليها - عمولة بيع - لا تقل عن 5 في المائة. أي أن الراتب ينتهي إلى تكلفة إجمالية تصل إلى ستة آلاف ريال أو تزيد! وهذا المالك أو التاجر في غاية السرور وفي منتهى الحبور!
حين فرضت مشكورة - وزارة العمل - التأنيث، جعل هذا في ميزان كل من ساهم وساند ودعم تعديل ذاك الاعوجاج البغيض السابق، الذي يدخل الرجل فيما لا يليق له أن يدخله، كرجل مواطنا كان أو مقيما. إلا أنها بخست - بناتنا - في القيمة كثيرا جدا إلى حد ساوت بينهن وبين أجور عاملات الخدمة المنزلية. وذلك لأن راتب الستة آلاف ريال الذي كان يدفعه صاحب المحل - تكلفة تراكمية - للراتب وباقي النفقات عليه، تحولت بعد السعودة إلى 1500 ريال فقط، يتكفل ''صندوق الموارد البشرية'' بالنصف الباقي لينتهي إلى ثلاثة آلاف ريال فقط. أي أن المواطن أقل في أجرة القيمة السوقية بنسبة 50 في المائة عن العامل المقيم الذي كان يستقدم من شتى دول العالم للقيام بالعمل نفسه. وهذا فيما أحسبه وأعتقده بخلاف العدل، ولا ينتهي إلى رفع مستوى العيش الكريم الذي يفترض أن تسعى كل الوزارات في الدولة إلى جعله هدفا أخيرا لها حين تضع سياساتها وقراراتها النهائية والأخيرة.
إننا بخسنا بناتنا قيمتهن في الأجور، ودفعنا للتجار ما لا يستحقونه، وتحملنا عنهم تكلفة كانوا يدفعونها لغيرنا راضية أنفسهم ببذلها، وحين وصلت النوبة إلينا، شحت بهم أنفسهم، وقبضت عليها أيديهم.
ولولا سوء ظني - بعقل التخطيط لدينا - لقلت يدفع في صناديق تنمية الموارد المالية، لصالح الموظفات الجدد من نون النسوة العاملات إلا أن تحويل دعم الموارد البشرية إليهن مباشرة أقرب للعدل، وأقرب في تنفيذ المسؤولية الاجتماعية، التي بموجبها تم مضاعفة رسوم الإقامة ومكتب العمل. لا لكي ينتهي إلى خزائن التجار وأصحاب المحال التجارية، بل ليقبضه من هم بحاجة إليه من صغار الموظفين في القطاع الخاص من المواطنين.
وهذا ما لم يتم تنفيذه حتى الآن.. وفيه تقليل من القيمة الحقيقية للمواطن أمام المقيم، وكأنه معطوب يبذل المال للتاجر عوضا لتوظيفه. وكأنه لا يستحق أن ينال ما كان يناله غيره من المستجلبين من خارج الوطن.
العدل الذي يجب ألا يتأخر.. أن يتحول دعم صندوق الموارد البشرية إلى الموظفين مباشرة، مع فرض الثلاثة آلاف ريال كحد أدنى لأجر المواطن السعودي، وأن يكون هذا برسم النفاذ العاجل.