النفط ليس فقط مصدرا للطاقة
في أول عهد البشرية بالنفط، أي منذ ما يزيد على 150 عاماً، كان العالم يستخدمه فقط كمصدر للوقود وتوليد الطاقة، إلى جانب تعبيد الشوارع والساحات والطرق العامة. ومع مرور الوقت، وما واكبه من تطور صناعي كبير وتقدم تقني فاق كل التصورات، اكتشف العالم أهمية المشتقات النفطية كمصدر لأنواع لا حصر لها من المنتجات الصناعية والأدوات المنزلية والمنشآت العامة. وأُنشئت ما تسمى بالصناعات البتروكيماوية التي أصبحت جزءا لا يتجزء من عالم الصناعة الحديث، ومنتجاتها ملء السماء والأرض. بل نستطيع التأكيد على أنه لا يخلو بيت من بيوتنا ولا مكاتبنا ووسائل نقلنا من كثير من منتجات الصناعات البتروكيماوية، وحتى الملابس التي نرتديها لها نصيب كبير منها. والناس اعتادوا في الدرجة الأولى على استخدامه وقودا لسهولة نقله وتخزينه واستخدامه، بل أسرفوا في ذلك إسرافًا شديدًا، تاركين مصادر توليد الطاقة الأخرى الأكثر تكلِفة للمستقبل، وذلك بسبب تدني أسعار المواد الهيدروكربونية بوجه عام خلال العقود الماضية. وهذا مما أدى أيضا إلى سرعة استنزاف هذه الثروة الناضبة. وكذلك لسهولة التعامل مع السوائل النفطية وارتفاع مستوى كثافة الطاقة المتولدة منها. ومن جهة أخرى، نجد من يظن ويعتقد اعتقادا راسخا أن مستقبل النفط مهدد بضعف الطلب عليه بسبب الارتفاع النسبي لأسعاره في السنوات المتأخرة، وأن ذلك سوف يقود إلى الاستغناء عنه أو التقليل من قيمته ومن الحاجة إلى استخدامه، وهي فكرة غير واقعية على الإطلاق، صدّقها وآمن بها البعض منا. وعلى الرغم من أن ذلك لا يخرج عن كونه مجرد رأي، قد يحدث أو قد لا يحدث، إلا أنه أيضا تجاهل لأهمية المشتقات النفطية في حياتنا كمصدر لكثير من ضروريات ومتطلبات المجتمع الإنساني. ولو افترضنا جدلاً أن عبقرية الإنسان توصلت إلى إيجاد مصدر جديد لتوليد الطاقة في هذا الوقت بالذات وبكميات تفي بجميع ما تحتاج إليه البشرية اليوم لتسيير أمور حياتها، وهو أمر حدوثه شبه مستحيل بالنسبة للإمكانات المتوافرة لدينا اليوم، فما نسبة كون المصدر الجديد تنطبق أوصافه وخصائصه وتكلفته على المنتجات النفطية التي تكيفنا مع استخدامها خلال عقود طويلة؟ إنها دون شك نسبة ضئيلة جدا تكاد لا تذكر، إن لم يكن ذلك مستحيلاً خلال المستقبل المنظور. فهل من المنطق والمعقول أن نتوقع حصول استغناء شامل عن المواد النفطية تحت أي ظرف من الظروف، وخلال عدة عقود من الآن؟ حتى لو ارتفعت الأسعار النفطية إلى مستويات قياسية، قد تلامس 200 دولار للبرميل على سبيل المثال، فلن يزيدنا ذلك اعتقادًا بقرب الاستغناء عن النفط. ونتمنى لو أن الذين يرون إمكانية التوصل لإيجاد بديل للنفط مناسب قبل النضوب، يلقون نظرة فاحصة على الإمكانات البشرية التي تعمل في مراكز البحوث العلمية وما يمكن أن تتوصل إليه، وصعوبة وتعقيدات استخدام مصدر جديد لتوليد الطاقة على نطاق واسع، بمساحة وحجم 90 مليون برميل نفط في اليوم. ناهيك عن تكلفة إنشاء البنية التحتية الواسعة التي يحتاج إليها المصدر الجديد، والتي سوف تكلف عشرات، بل مئات التريليونات من الدولارات والمدة الطويلة التي سوف يستغرقها بناؤها، والتي بالتأكيد سوف تستغرق عدة عقود. ولا نود أن ندخل في تفاصيل صعوبة تمويلها، في الوقت الذي يعيش فيه العالم أسوأ حالاته الاقتصادية وشح موارده المالية.
أما إذا كان القصد والمتوقع هو ابتكار مصدر لإنتاج الطاقة فقط، من خلال طريقة تكون أقل تكلفة من المصادر النفطية التي بدأت قيمتها تتصاعد وأسعارها ترتفع، دون المساس بخصائص النفط الجوهرية التي جعلت منه مادة أساسية للصناعات البتروكيماوية، فهو موجود الآن ومتوافر بكميات لا نهاية لها، وهي الطاقة الشمسية. وأسعارها تنافس أو تكاد جميع مصادر الطاقة بما في ذلك المشتقات النفطية. وهي، دون أي جدال، سوف تكون الوريث الرئيس المناسب لمصادر الطاقة الأحفورية بأنواعها وأشكالها عندما تنضب وينتهي دورها. وإن كان لدى البعض بعض المآخذ على توليد الطاقة الشمسية لكونها لا تعمل إلا في وقت ظهور الشمس. ولكن البحوث العلمية لن تألو جهدا في إيجاد حلول مناسبة مع مرور الوقت تسمح بتخزين الطاقة للاستخدام الليلي. وتشغيل المرافق الشمسية سيعطي أيضا فرصة لتطوير وتحسين أدائها ويحل الكثير من الإشكالات التي يعتقد البعض أنها ربما تكون عائقًا لرفع كفاءتها، مثل الرواسب الترابية والرطوبة ودرجة الحرارة العالية وما إلى ذلك من المؤثرات البيئية.
والقصد من هذا الحديث التأكيد على أنه مهما بقي من المواد النفطية القابلة للإنتاج في المكامن تحت سطح الأرض، فإن قيمتها الاقتصادية سوف تظل كما هي، بل ربما أفضل من وضعها الحالي مهما تقدم بها العمر، سواء كان مستقبل استخدامها كمصدر لتوليد الطاقة أو كمادة أساسية للصناعات البتروكيماوية. ولذلك يجب أن نحرص على توفير هذه الثروة الثمينة وألا نفرط فيها ولا نخشى الاستغناء عنها. والتفريط الصحيح هو استنزافها بأسرع ما يمكن وإنتاجها بقدر يفوق متطلبات حياتنا الضرورية.
ونختم حديثنا بسؤال بسيط إلى أصحاب الرأي. أيهما أفضل لنا، ونحن نعيش فوق أرض هذه الصحراء، استمرار الإسراف في إنتاجه واستهلاكه، يعقبه نضوب قبل أن يكون لدينا البديل، أم الاستغناء عنه كما يخمِّن البعض، ولكنه يبقى لنا وتحت أرضنا؟ وثقوا أنه لو استغنى العالم بأكمله عن النفط أننا لن نستغني عنه. نحتاج إليه لتوليد الكهرباء ووقود في منازلنا وطاقة لمرافق التحلية وتسيير مركباتنا ورفع المياه الجوفية ورصف الطرق وتغذية مصانعنا البتروكيماوية، لأنه بالنسبة لنا مصدر رخيص. فهل بقي هناك مجال للخوف من نضوبه؟