عندما تقطع شيئا من رأيي.. تقطع شيئا من ذاتي
.. من أقوى معاني الحرية الشخصية التعبير عن النفس، ما نسميه التعبير عن الرأي. إنه ليس فقط كلاما متدفقا بلا عمق بداخل النفس البشرية، بل هو جوهر تلك الذات البشرية.. هي صيرورته وكينونته وحقه في إثبات الوجود وتحقيق الكيان. لذا فالتعبير عن الرأي حرا هو ليس فقط لتنبيه الآخرين عما يجول في ذهنه من أفكار، بل طريق طويل يستمر بطول الحياة ذاتها لاكتشاف النفس. كل ما نعمله في الدنيا بوعي أو بلا وعي، هو اكتشاف أنفسنا.
نصعد في الفضاء، ونغوص في أعماق المحيطات، ونسبر ناموس وقوانين الكون في رحلة بشرية جماعية وفردية أيضا لاكتشاف الذات. إن الله تعالى جعل كل سر قوانا الحقيقية التي هي الإيمانية الروحية بالنية الداخلية، بالوعي الداخلي.. لذا وأنت تؤدي كل شعائر دينك إنما هو أيضا اكتشاف لنفسك الإيمانية ومدى قوة تقدمها وتطورها في رحلتك الحياتية مع الإيمان.
إن الحرية الذاتية هي التعبير عن النفس إذن، لاكتشاف النفس، إن اكتشاف النفس بالرأي الحر لا يكون إلا بالإرادة التنفيذية قولا أو كتابة أو فعلا.. إنها مداراتٌ مستمرة لإذكاء النفس وإنضاجها وكشف وعيها للعالم وأمامه. هذه الرحلة التي نعبر عنها بحريتنا لا بد أن تمر بدون اعتراض لتحقق الرسالة الكبرى من وجودها، واعتراضها هو اعتراض للنفس الإنسانية ذاتها.. إن مسك أو تحوير أو منع الرأي هو قصف داخلي للجوهر الوجودي في داخلنا.. إنه تدخلٌ قسريٌ غير مأذون له لترويع هذه النفس، وكسر مرحلة نموها في الاكتشاف والتبلور والنضج.. قصفٌ يصل للكيان وللعمر.
من أسهل الأشياء، إن كانت عندك قوة المنع، أن تمنع الرأي أو بعضه أو تحوّره، وهنا تمس كرامة الإنسان بكرامة جوهره الداخلي الذي يجعل البشريَّ منيرا، مميزا، معمّرا، وبنّاءً على الأرض.. إنك حين تقطع الرأي وتمنعه تمس هذا التميز السامي في أميز مواقعه.
وعلينا أن ندخل في المسألة الأخلاقية رغم تعقيدها واختلاف الرؤية والخلفية الحضارية والمواقف المستقلة لكل فرد، ولكنها بصفة العموم هي ألا تسبب أذى للآخرين، وألا تشوش عليهم، وألا ترتكب التزييف وتدور بالكذب وتتلاعب بالعقول، كما يفعل لاقط الكرات في السيرك. وهنا يأتي أهم ميزان عقلي وقدسي لأن الله هو الذي أقره وكتبه وأجراه في ضمير الكون وهو الثواب العادل والعقاب العادل أيضا، لذا كان العقابُ من جنس العمل قولا يدور في كل الحضارات منذ أيام حفَرَها حامورابي على الأعمدة.
إن منع الرأي المخالف الذي يتفق عليه العرف العام أنه مضر ومثير للقلق الذي قد يحرك قاعدة المجتمع في أمنه ومعتقداته ونظامه الذي إليه يستريح، هو بالفعل الآلي الذاتي قطع للرأي، كما أسلفت، وسيسبب ذلك القصف النفسي الداخلي.. ولكن فعلا هنا هو المقصود لأنه طبيعة ارتدادية واستجابية لأثر العقاب الذي استحقه نظير الرأي المضر.
في الرأي الحر الذي يبني أو يصنع موجاتٍ لتفعيل العقل للتفكير والمحاورة هي الجمال الإنساني كله، خصوصا في الأخلاق والقانون منذ نقاشات الإغريق حتى النقاشات التي تدور في البرلمانات وقاعات الرأي، وحتى الحوار بين اثنين.. كل كلمة من أول التاريخ المنطوق والمكتوب هي حَجَرةُ بناءٍ في الصرح الإنساني المشهود في الأخلاق والقانون اللذين يحفظان العدل؛ أولا لتجري الحرية الفردية كأمرٍ أساس في الصفة البشرية العقلية والنفسية، وثانيا في ترشيد وإدارة الرأي ثوابا أو تعديلا أو عقابا، أو استنكارا.. ليظهر الضدُ الضِدّا.
إن الآراء فوق أنها طريقٌ لاستكشاف النفس فهي أيضا محررة الإنسانية وراسمة أكبر الملاحم التحررية والتقدمية والعدلية للأفراد الذين غيروا العالم كل مرة سارت بهم طاقة الأحداث.
دائما منع الرأي ــــ أو بعض منه ــــ بالمقص.. هو في الوقت ذاته مقصٌ يجري بكل آلامه وتضوّره في أحشاء من مُنع رأيُه.. وقصفت سكينته الداخلية.
هذا، والسلام.