اسم «نوكيا» لم يرتبط بالجوالات بل بالابتكار والتجديد
تقدر مبيعات نوكيا السنوية بـ 36 مليار دولار وفروعها منتشرة في 130 دولة حول العالم، وتبيع ''نوكيا'' خمسة هواتف كل ثانية، وتبلغ حصتها في السوق العالمية 38 في المائة وهي من أكبر الشركات حول العالم في صناعة الهواتف الذكية رغم أن صناعة الهواتف ليس المنتج العريق لـ ''نوكيا'' وليست مثل موتورولا الأمريكية التي تعد الشركة الرائدة في صناعة الهواتف حول العالم. وقد ارتبطت موتورولا فعليا بصناعة الهواتف والجوالات إلا أن ''نوكيا'' تتمرد على هذه وتربط نفسها بالابتكار وليس بالمنتجات، فالابتكار ثقافة مترسخة في أعماق الشركة، وقد يكون هذا هو السبب الجوهري لاستمرارها 137 عاما.
وحتى تتبين لنا هذه الفكرة دعونا نستعرض بعض التقارير المالية عن الشركة ومنها التقرير الأخير لمؤسسة ''غارتنر'' Gartne للبحوث التقنية التي بينت أن مبيعات ''الهواتف ذات المزايا المتوسطة'' the feature phones قد شهدت تراجعا كبيرا على مستوى العالم خلال الربع الرابع من عام 2012، فقد بلغ حجم المبيعات العالمية من تلك الهواتف نحو 264 مليونا، بانخفاض نسبته 19 في المائة عن العام الذي سبق، وهذا الأمر يشكل تحديا من نوع خاص بالنسبة لشركة نوكيا، وهي التي استطاعت المحافظة على هبوط مبيعاتها من الهواتف ذات المزايا المتوسطة ضمن مستويات معقولة من خلال الاستحواذ على حصص إضافية من السوق.
وخلال الربعين الماضيين، بلغت نسبة التراجع السنوية في مبيعات ''نوكيا'' من الهواتف ذات المزايا المتوسطة نحو 15 في المائة. وفي الربع الرابع من عام 2012 أدى هذا الهبوط إلى تقلص مبيعات الشركة من تلك الهواتف إلى 80 مليون جهاز مقابل 94 مليونا في الربع ذاته من عام 2011 إضافة إلى وجود ضعف في عائدات الشركة في الأسواق الناشئة الأهم في الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ورغم زيادة حجم المبيعات بنسبة 14 في المائة في الشرق الأوسط وإفريقيا إلا أن إيرادات نوكيا لم تتجاوز 9 في المائة فقط، أما في أمريكا اللاتينية فقد نمت المبيعات بنسبة 3 في المائة، في حين تقلصت العوائد فعليا بمقدار 9 في المائة.
وبالنظر إلى طبيعة التغيرات المتلاحقة خلال الربعين الثالث والرابع يمكننا بسهولة أن نعرف إلى أين يتجه أداء ''نوكيا'' حاليا في بعض أهم الأسواق محدودة الدخل في العالم خصوصا أن ''نوكيا'' انهارت فعليا في الصين، فإن مبيعاتها من الأجهزة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية مجتمعتين تصل الآن إلى 33 مليون جهاز من أصل مبيعات ''نوكيا'' الإجمالية والبالغة 86 مليونا.
ورغم أن الكثيرين يرون أن مثل هذه البيانات تعني قرب انهيار ''نوكيا'' وأنها تنتظر إفلاسا مدويا، إلا أن الثاقب والعارف بأسرار هذا المارد الاسكندنافي يجعلنا ندرك أن الأمر ليس كذلك وأن ''نوكيا'' ليست الشركة التي تنهار بسرعة، فجميع هذه المؤشرات تجعلنا نتيقن أن هذا العملاق البالغ من العمر 137 سنة يريد أن ينسحب من سوق الهواتف والجوالات ويتجه إلى منتج جديد مختلف تماما عن مجال الاتصالات والجوالات. وحتى تتضح الفكرة دعونا نغور قليلا في الفلسفة التي قامت عليها ''نوكيا'' والرسالة التي بنت عليها استراتيجياتها.
رغم تواجد ''نوكيا'' في المقدمة لمعظم التاريخ القصير لصناعة الجوال إلا أنها دخيلة على هذا المنتج ولم يثبت أن ''نوكيا'' منذ أن بدأت قبل أكثر من قرن ونصف أن اسمها قد ارتبط بالاتصالات. فلم يرتبط اسم ''نوكيا'' بالجولات يوم من الأيام بل أنه لم يرتبط اسم ''نوكيا'' بمنتج بعينه فهي التي تتمرد دائما على هذا التوجه التقليدي للشركات وترى أن هذا يقيد انطلاق المنظمات ويحد من تحليقها بعيدا، لذلك نراها تأنف من أن تكون علامتها التجارية مرتبطة بمنتج بذاته ويتجلى ذلك في رسالتها الأبدية المتمثلة في الابتكار وإعادة التجديد.
فنحن نعرف أن فورد مرتبطة بصانعة السيارات، ونعرف أن بوينج مرتبطة بصناعة الطائرات، وماريوت ارتبط اسمها بالضيافة والفنادق، ووالت ديزني بالترفيه، ووال مارت بالتجزئة، إلا أن ''نوكيا'' لم يرتبط اسمها البتة بمنتج بعينه أو نشاط بذاته وهذا هو سر تألقها وبقائها ما يقرب من قرن ونصف في حالة من الإبداع والتجديد، فشعارها الفريد يوحي بالاستقلابية والحرية وإعادة التجديد. ولكن لا يحدث الابتكار في ''نوكيا'' بالصدفة وإنما يقع في قلب الشركة تماما وهذا يتجلى في ميزانية الأبحاث والتطوير البالغة ثلاثة مليارات دولار، ويعمل في مجال البحث والتطوير 52 ألف عامل يمثلون ما يقارب نصف موظفي ''نوكيا''. و للبقاء في قمة صناعة الجوالات تحتاج ''نوكيا'' إلى تدفق مستمر من المنتجات الابتكارية التي تخدم احتياجات عملائها وتفضيلاتهم وأنماط حياتهم إلا أن الشركة الفنلندية العريقة تمارس إعادة التجديد طوال حياتها ليس بهدف البقاء في صناعة الهواتف بل للبحث عن الفرص في أي مجال ولاقتناص الأرباح في أي مكان وللبقاء يافعة شابة، فما أن تكشط الدسم من منتج معين حتى تذهب للبحث عن منتج أكثر دسما في صناعة أخرى. ففي تاريخها ذهبت من تصنيع الورق إلى إنتاج المطاط ومعاطف المطر، وبعد ذلك توجهت إلى بنادق الصيد، ومنها إلى الإلكترونيات، ثم ها هي الآن تستثمر بعمق في الهواتف والجوالات. هذا يقودنا إلى أن الشركة كما أسلفت لم يرتبط اسمها بمنتج بعينه، ولعل الإخفاقات التي تمر بها الآن وانخفاض مبيعاتها مناورات للخروج من صناعة الجوالات إلى منتج آخر بعيد جدا قد يظهر في السنوات القليلة المقبلة. فمن الممكن جدا أن ترى ''نوكيا'' تقود صناعة السيارات، أو أن تمتلك أكبر سلسلة مطاعم حول العالم، أو أنها الشركة رقم واحد في صناعة الحديد، فهذا يعتمد على ما توصلت إليه أبحاث الشركة.
إن فكرة الاستقلالية عن المنتجات فكرة رائدة في مجال الأعمال إلا أن تطبيقها غاية في الصعوبة، وتحتاج الشركات التي تتبنى مثل هذا الفكر إلى مقدرة فائقة على الولوج إلى صناعات دخيلة عليها ثم الخروج منها متى ما أرادت.