قراءة تحليلية في الوعظ الديني

في أول الأمر النذير من الله والبشير منه هو ــــ النبي والرسول- وحين ذاك كان الخطاب الديني وحي من الله يوحى إلى من اصطفاه وأحبه واختاره ليقوم في الناس رسولا ونبيا وإماما يهدي إلى الخير والصلاح والتقوى وبها جميعا يعمل وبها جميعا يعيش.
القصة انتهت إلى الواعظ ــــ الموظف ــــ لدى الدولة. أو الإمام الذي يؤم الناس ويخطب فيهم، وتصرف له الدولة ــــ معاشا يعيش به، ويقضي به شؤون حياته. قصة طويلة جدا عمرها 1435 عاما.. من تاريخ لحظة غياب النبي المتكلم بالوحي مشافهة للمتلقين.
حدث الكثير خلال هذا الزمن العريض والممتد في أعماق بعيدة من التاريخ.. الذي يعني المقال هو هذا التوجه لتحليل خطاب الوعظ في هذه المرحلة المحددة من التاريخ، مكتفيا بصفات هذا الخطاب في الوعظ الديني بمقدار الحاجة.

1 - تفاوت العلم ودرجاته
يعظ الناس العالم الواسع المعرفة، والعميق في الإدراك، والبصير في فهم الواقع. ويخطب في الناس من لا ناقة له ولا جمل في العلم ولا في الفقه، حدا بلغ مرتبة أن يجهل أحدهم أن الإسلام يحرم الزواج بأكثر من أربع نساء، وقضى القاضي عليه، أن جهله مستساغ، وعذره له وجه صحيح، وحكم عليه بعقوبة مخففة تبعا لهذا. ولست معنيا بالحكم القضائي الذي له أسبابه، بقدر ما أنا معني بهذا الإقرار بالجهل وهو يستند إلى حكم القضاء، ويزاول الوعظ الديني، ويستولي على ساعات طويلة من أعمار مستمعيه في كل خطبة من خطب الجمعة.
وهذا يعني أن رجلا بهذا القدر الهائل من الجهل بلغ مبلغ الواعظ والمرشد. وحين نطلع على ما يتم تناقله عبر وسائل الاتصال الحديثة، ننتهي إلى قناعة بأن الوعظ لم يعد محصورا في أهل العلم، ولا خاصا بالمؤهلين علميا وفقهيا له بالضرورة.
2 - الخروج إلى السياسة
ولا نعني ــــ فصل الدين عن السياسة والحياة ــــ فهذا غير جائز لأن الإسلام يتكون من عقيدة وشريعة، والشريعة ميدانها الواقع، وتفاصيل حياة الناس. إلا أننا نعني بدخول الوعظ الديني إلى الفئوية والحزبية والطائفية. والوقوف مع أحد المتخاصمين على السلطة والحكم في مكان ما ضد الآخر المنافس له، و يقوم بالدعاء بالنصر والتأييد إلى أحدهما، والدعاء بالهلاك والهزيمة على الآخر. وحينئذ تتحول بيوت الله إلى ــــ دكان سياسي ــــ تابع لتيار ــــ ما ــــ، يدخل إليه أتباعه وأنصاره، ويتباعد عنه المعارضون له.
بهذا تحول الوعظ إلى - وظيفة - ''محلل'' سياسي، لفئة من الناس تحكم فعلا، أو هي تسعى لأن تكون حاكمة فعلا. هذه السمة بالذات عمقت الشعور بالشتات في وجدان المجتمع المسلم أكثر من أي وقت مضى، لأننا حين نتكلم عن ــــ الشرعية الدينية ــــ نجدها تتقابل فيها الأضداد، وكل واعظ، وكل مسجد ينسب رأيه إلى الله وإلى رسوله وإلى أهل العلم. وكلاهما يقول ما هو من عندي ولست أنا القائل به، إنما هو حكم الله وحكم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا يتم توظيف الوعظ والوعاظ للقيام بمهمة الغطاء الديني للساسة، والغريب أن من يدعو للسلطان اليوم، سيدعو لمن أزاحه وأنقلب عليه غدا. حيال هذا الواقع يكون الواعظ في سعة من استعمال النصوص الشرعية، بحسب قناعته الشخصية تارة، أو بحسب قناعة من يوظفه ويجري له رزقا مقابل استعمالها لصالحه.

3 - الجهر بالجهل
من الطبيعي أن يستتر الجاهل بطول الصمت، وأن يقلل الكلام من لا حظ له من العلم ولا نصيب، وأن يوفر لسانه من لا يعلم. لأن المتكلم بالجهل يفسد في دين الله وفي عقول عباده أكثر مما يُصلح، ويميت القلوب ولا يحييها. إلا أننا ورغم التوثيق اللازب الذي يثبت بالصورة الحية حتى أنفاس المتكلم إلا أن بعضهم لا يحتشم من جهله، ولا يستحيي منه، وكأنه يجاهر الخلق به، ويظهره لمن لا يعرفه عنه.
فأول الأمر يقحم أمورا لا يجوز له، ولا لمن هو في حاله، أن يدخلها ولا أن يتولى الكلمة فيها، كالسياسة الدولية، أو سياسة الدولة الخارجية، أو إعلان الحرب والنفير العام. لكون هذه الأمور كلها ومن أقدم الأزمنة لها وزراؤها المختصون بها، ويرتبطون بشكل مباشر بولي الأمر. وأن موازين القوى بالغة التعقيد هي برهان دراسات عميقة جدا في تأثيرها وما يمكن أن ينتج عنهاعند قرار الحرب. إلا أن بعض الوعاظ يُخيل إليه أنه هو المنتصر لدين الله العباسي، وها هو ذا يقف وأمامه جيوش المسلمين. فيعلن الحرب على هذه الدولة وتلك. إلا أنه يعود ليمتطي سيارته الفاخرة ويعود إلى منزله سالما، وقد ترك من خلفه ألف لغم بشري، قابل للانفجار غضبا في أي مكان من الوطن، وبأي طريقة محتملة.
مرد هذا كله إلى ظاهرة تسمى ''عقل النص'' فئة من الناس لم تمارس الاستنباط ولا مقدمات الاجتهاد لأنها لا تبلغه ولا ترتقي إليه، إلا أنها تحفظ وقائع من التاريخ وأحاديث مختلفة، ثم تسقطها على الفهم للواقع بحسب التشابه والتقارب. وبذا تعتبر كل خروج عن الانطباق خطأ في المجموع وليس خطأ في فهمه وفي قدرات عقله. والمسافة بين النص وإدراك الواقع دائما مسافة غير قصيرة ولا قريبة، كما أن إدارة أزمات الحاضر بقصص التاريخ وواقعه البسيط دائما ما تخلق معضلة، والمعضلة الأكبر هي كيف تفكك عقل النقل وتحوله إلى عقل الفهم الناضج والإدراك الواعي للذات وللحياة ولعمارة الباطن والظاهر.
ولهذا مزيد بيان وتفصيل يأتي عليه الكلام، إن شاء الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي