رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


ذِكرى عام 1973 المقاطعة النفطية

لعل الكثيرين منا يذكرون تلك البادرة التاريخية التي أقدمت عليها السعودية، بقيادة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز ـــ رحمه الله ــــ وأسكنه فسيح جناته، حينما أوقفت تدفق البترول، قبل 40 عامًا، في عام 1973 عن الدول التي كانت تساند إسرائيل علنًا في حربها مع الدول العربية المجاورة لها. وما أحدثه ذلك العمل الشجاع من ردود فعلِ لا يزال تأثيرها قائما حتى يومنا هذا. وبصرف النظر عن كون نتائج توقيف ضخ البترول آنذاك كانت إيجابية أم غير ذلك، فالشاهد أن الدول ذات العلاقة لم تنس تلك المرحلة التي لم تدم أكثر من عدة أيام، وبعدها عادت الأمور إلى مجاريها. ولكنهم استكثروا صدورها من دولة صغيرة "ذات سيادة". ولا يزالون يرددون امتعاضهم كلما حلت مناسبتها، على الرغم من أنه، بطبيعة الحال، لا معامل تكرير البترول ولا وسائل النقل البحرية كانت قد تأثرت نتيجة لقرار قطع الإمدادات المؤقت. ومع ذلك فقد كان ذلك دافعًا لهم ليجمعوا أمرهم ومن في صفهم من الدول الغربية المستهلكة لينشئوا ما عُرِف لاحقًا بوكالة الطاقة الدولية. وهي مؤسسة غير حكومية ولا ربحية تُعنى بدراسة مستقبل مصادر الطاقة، وعلى وجه الخصوص المصادر البترولية. وهي تمثل وجهة نظر 28 دولة غربية وتقدم الاستشارة لهم. فمهمتها الرئيسة هي جمع وتقديم نتائج دراساتها وأبحاثها في مجال الطاقة. وتوصياتها غير ملزمة للدول المعنية. وحقيقة، لا نعلم مدى استفادة تلك الدول من دراسات وتوصيات وكالة الطاقة الدولية عبر السنين الماضية، وإن كنا نشك في أنهم كانوا يولونها اهتمامًا كبيرًا. وإنما الملاحظ من متابعة تقاريرها السنوية والدورية وتنبؤاتها أنها غير ذات قيمة ولا تعني للذين أنشأوها الشيء الكثير، كما أنها نادرًا ما تأتي النتائج التي تصدرها كما توقعوها في تقاريرهم الدورية. وفي اعتقادنا أن دراساتهم، على الرغم من المجهود الكبير الذي يبذلونه في سبيل إعدادها، إلا أنها غالبًا ما تكون مكررة ومبنية على أسس غير سليمة ومعلومات غير دقيقة. ولذلك غالبًا ما تأتي نتائجها بعيدة عن الواقع. ومن أسباب عدم نجاح تنبؤاتهم وتوقعاتهم كون معظم مبادئ معلوماتهم الأساسية قائمة على مصادر تعوزها الشفافية ومن الصعب التأكد من صدق معلوماتها.
والضجة المفتعلة، التي لا يزال الغرب يعيدها عامًا بعد عام، مبالغ فيها إلى أبعد الحدود. والمقاطعة القصيرة التي تبنتها المملكة لم تكن بدعًا أو ممارسة جديدة في المجتمع الدولي، بل ولا تقارَن بحوادث سبقتها وأخرى تبعتها من حيث التأثير السياسي والاقتصادي وطول المدة التي استغرقتها، وهي فترة قصيرة. ففي عام 1951 قرر رئيس الوزراء الإيراني، الدكتور محمد مصدق، أن يؤمم الصناعة البترولية في بلاده. فثارت ثائرة الدول الغربية التي كانت تحتكر العمليات البترولية في الشرق الأوسط، وخصوصًا بريطانيا وأمريكا، وقررتا اتخاذ إجراءات قانونية صارمة وعسكرية من أجل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه من تحكم بالثروات البترولية. وأبرموا حصارًا شاملاً لجميع المنافذ الإيرانية ومنعوا ناقلات البترول من الإبحار من وإلى الموانئ البحرية الإيرانية ومقاطعة البترول والبضائع حتى ضيقوا الخناق على حكومة الدكتور مصدق، كما أثاروا الشارع الإيراني ضده. واستطاعوا في عام 1953خلعه وإعادة الشاه الذي كان قد هرب خارج البلاد، إلى الحكم، حيث عادت الأمور إلى سابق عهدها قبل التأميم.
وأمريكا نفسها لا تفتأ تقاطع من تريد، بحق ومن دون حق. وعندما تمارس المقاطعة ضد أي جهة كانت، فإنها لا تلين ولا ترحم. فهي عندما قاطعت نظام صدام حسين في العراق، تعرف أنها كانت تخنق مئات الآلاف من الأطفال الأبرياء الذين ذهبت أرواحهم ضحية للعدوان الأمريكي غير المبَرَّر، ولكنها لم تعبأ بهم ولا بحياتهم. والآن هي، مع كثير من الدول التي لها تأثير فيها، تحاصر إيران اقتصاديًّا. ونحن لسنا مع ولا ضد هذا الحصار الذي لا يزال قائمًا، ولكننا نعرض ذلك من باب التذكير. وهناك عشرات المناسبات التي لا تتورع فيها الدول الكبرى من أخذ مبادرة المقاطعة التي يستخدمونها كسلاح يحاربون به من لا يكون في طوعهم ورهن إشارتهم. وبعض المقاطعات التجارية والاقتصادية تضر أحيانًا بأكثر من طرف حتى ولو لم تكن له علاقة مباشرة بالحدث.
والملاحَظ أن جميع الأحداث التي تكون الدول الغربية طرفًا رئيسا فيها يعفي عليها الزمن ولا أحد يعيد سيرتها سنويًّا، كما هو حاصل اليوم مع عملية إيقاف تصدير البترول الذي مارسناه في عام 1973، دفاعًا عن مصالحنا وردًّا على تدخل سافر ضدنا. ومقاطعة الولايات المتحدة منذ أوائل ستينيات القرن الماضي لدولة كوبا المجاورة، لدليل على الغطرسة المتناهية التي يتمتع بها الشعب الأمريكي إذا كان الأمر يتعلق بإخضاع الشعوب الضعيفة للسيطرة الأمريكية وجبروتها. وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال، ولن تتوقف في المستقبل ممارساتها لهواية إذلال الشعوب، سواء كان ذلك اقتصاديًّا أو عسكريًّا. والفرق بيننا وبينهم أننا أمة مسالمة، فغضبنا لا يطول ومقاطعتنا مؤقتة تزول بزوال السبب. أما هم، فإذا بطشوا، بطشوا جبارين ويحاولون تركيع الطرف المناوئ لسياساتهم غير العادلة. وإلا، فلماذا هذا الإصرار على إحياء ذكرى حدث عفا عليه الزمن؟ والمثير للعجب، أنك تجد كتاباتهم حول موضوع المقاطعة مليئة بالمبالغات ويضخمون تأثير الوقائع، حتى أنك لتشعر أن هناك ظلما كبيرا ارتكِب في حقهم، وهو ما لم يحدث على الإطلاق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي