السوق المالية .. خطوة صحيحة في مشوار طويل
لا يمكنني إلا أن أقول رائعة تلك الخطوة الجريئة، واللازمة التي اتخذتها هيئة السوق المالية في التعامل مع الشركات الخاسرة في السوق، وهي الخطوة التي طالما ناديت بها شخصيا هنا في هذا المنبر الاقتصادي، ونادى بها الكثير غيري. فمنذ الأشهر القليلة التي سبقت انهيار السوق المالية عام 2006، وهي ترزح تحت ضغط كبير من المضاربات غير الرشيدة التي قادت شركات خاسرة تماما كي تحلق عاليا بأسعار الذهب. ثم تعمقت المشكلة عندما بدأت هيئة السوق المالية في التعامل مع الشركات الرابحة التي تحقق عوائد وذات الاستقرار الإداري والقيادي الكبير، وتطبق جميع الأنظمة واللوائح وعلى رأسها قواعد الحوكمة، تعاملها تماما وتعطيها الحقوق نفسها في التداول كما تعامل الشركات الخاسرة الفاشلة إداريا وقياديا ولا تطبق لائحة أو تلتزم بنظام حتى في انعقاد الجمعية العمومية، بل بعضها تم تحويلها فعليا إلى جمعيات خيرية يتبرع المدير التنفيذي براتبه تبرعا. ولهذا لم يفهم المضارب ما الفرق بين شركة خاسرة وشركة رابحة طالما يمكنه بيع وشراء الجميع بالتذبذب نفسه وفي الوقت نفسه والآلية نفسها. وبينما التذبذب في الرابحة أقل، فالتذبذب في الخاسرة أعلى وهو ما يمكنه من صناعة أرباح يومية كبيرة ستعوضه حتما يوم تنهار السوق، بينما الرابحة تتذبذب بصورة أقل مما يعني سنويا أرباحا أقل وخسائر ضخمة. إذا حدث وانهارت السوق، وهكذا انقلبت المفاهيم فأصبحت الشركات الرابحة أكثر خطورة. وهذا أربك السوق والمحللين وأصبح الكلام والتعليق فارغا لا معنى له، ومهما شرحت خطورة المغامرة في المضاربات على الشركات الخاسرة كانت السوق وبشكل منتظم تكذب هذا من خلال ما تقدمه من عوائد مجزية للمتهورين بينما تعاقب العقلاء والمنظرين. قصص محزنة من نقاشات مملة جعلت الحديث عن السوق المالية أكثر الموضوعات التي نحاول تجنبها طالما لم تقدم هيئة السوق المالية خطوة تدعم موقف الشركات الرابحة، وتقسم السوق.
كنت طالبت بتقسيم السوق إلى سوق رئيسة وسوق ثانية أو ثانوية أو أي اسم آخر طالما السوق الرئيسة تمثل الأفضل من الشركات الأقدر على منح العوائد والحفاظ على حقوق المساهمين، وهي الأكثر التزاما باللوائح وقواعد الإفصاح والشفافية، بينما السوق الثانية سوق خطرة عموما، سوق تتضمن شركات غير قادرة على منح العوائد أو شركات خاسرة أو شركات غير ملتزمة بالقواعد أو لها تاريخ غير مستقر عموما، ويجب أن يفهم المضارب أن مثل هذه الشركات معرضة للتعليق في أي لحظة، وأنه بذلك يعرض استثماراته لخطر غير مبرر، ويجب أن يعرف المضارب الفرق بين السوقين.
طوال سنوات لم يستجب أحد لتلك المطالب حتى جاء مجلس الشورى أخيرا في آخر جلساته بمناقشة وضع السوق المالية وبالتأكيد على المطالب نفسها، ثم جاءت الهيئة ''أخيرا'' بالإجراءات والتعليمات الخاصة بالشركات المدرجة أسهمها في السوق التي بلغت خسائرها المتراكمة 50 في المائة فأكثر من رأسمالها، لم تتضمن هذه الإجراءات ما كنت أدعو له من تقسيم السوق إلى سوقين منفصلتين، لكنها قامت بخطوة صحيحة نحو هذا الطريق، لقد بدأت فعلا بتقسيم السوق، ولو نظريا.
بهذا الإعلان قسمت الهيئة السوق إلى ثلاثة مستويات بناء على معيار واحد فقط وهو مستوى الخسائر المتراكمة، وهي مستوى الشركات الرابحة ومستوى الشركات التي لديها خسائر متراكمة بين 50 في المائة وأقل من 75 في المائة من رأس مالها، ومستوى الشركات ذات الخسائر من 75 في المائة وأكثر. لقد أقرت الإجراءات الجديدة أن على أي شركة بلغت خسائرها 50 في المائة أو أكثر أن تعلن فورا للسوق المالية عن ذلك، ومع الإعلان تبدأ باتخاذ إجراءات واضحة لحل المشكلات القائمة والخطة لتخفيض مستوى الخسائر المتراكمة، والخطوة الرئيسة في الإعلان هي في وضع علامة خاصة أمام الشركة التي أعلنت عن خسائر تراكمية 50 في المائة تبين للمتداولين أن هذه الشركة لديها مشكلات وليس لديها خطة للحل، فإذا أعلنت عن الحل قامت الهيئة برفع العلامة عنها. وفي حالة الشركات الخاسرة بأكثر من 75 في المائة فستبقى العلامة حتى لو أعلنت الشركة عن خطة الحل. فالعلامة تحذيرية، وإخلاء مسؤولية، وخاصة لأولئك الذين لا يقرؤون القوائم المالية قبل عمليات المضاربة.
أهم خطوة قامت بها الهيئة في سلم تقسيم السوق هي تعديل فترة المقاصة للشركات الخاسرة بأكثر من 75 في المائة، فبدلا من المقاصة الفورية ''أي إيداع الأسهم في المحفظة في لحظة الشراء نفسها'' تم تعديل ذلك إلى T+2 أي لا يتم إيداع الأسهم في المحفظة إلا بعد يومين من التداول وهو يعني عدم إمكانية التصرف فيها بالبيع مرة أخرى، وبهذا ستقل رغبة المضاربين في هذه الأسهم ونحد من حجم تأثيرها في السوق ككل. فالسوق إذا أصبحت سوقين فعلا ولكن في نظام واحد، سوق يمكن التداول الفوري فيها سوق لا يمكن ذلك إلا بعد مضي يومين من الشراء.
إنها الخطوة الصحيحة في مشوار طويل، مشوار بدأ قبل انهيار السوق المالية عام 2006، لكن الهيئة لأسباب غير معروفة ''لعل أقربها صغر حجم السوق'' لم تقم بتلك الخطوة، ولكن أن تبدأ متأخرا خير من ألا تبدأ أبدا، وعندما أقول إن ''تبدأ'' بدلا من أن ''تأتي''، ذلك يعني أن الهيئة لم تصل بعد إلى كامل الحل، فما زالت هناك شركات يتم إدراجها لأول مرة ولا نعرف أين مسارها! وهي تحظى بمستوى تداول عنيف خاصة في اليوم الأول للإدراج، وهناك شركات لا تلزم بمستويات إفصاح متعارف عليها، أو قواعد حوكمة مقبولة، وهناك شركات تتراكم لديها الأرباح بشكل هائل، بينما تمنح الفتات للمساهمين أو لا تمنحهم أبدا، لذلك لا يزال الطريق طويلا، لكن الهيئة ولأول مرة وبشجاعة كاملة تضع قدمها على الطريق الصحيح فعلا، فأهلا بالهيئة وأهلا بالسوق المالية مرة أخرى.