الأمي الفاعل والمثقف العاجز
أخشى على كلمتي مثقف وثقافة من مرض الطفح اللغوي، وهو الابتذال في استعمالهما، وفي حضورهما، وفي كثرة ما يقحم فيهما مع الغربة الحقيقية لمعانيهما ودلالتهما.
الثقافة هي ذاتها المعرفة وهي بقية من علم، وحصيلة من أدب في اللغة وفي السلوك أيضا، وهي بهذا تكون أعم وأشمل من التعليم، فرب متعلم وهو عميق الجهل إلا فيما تعلمه، بحده وحدوده، وهذا عقل يسمى ـــ عقل كتاب ـــ أي أن عقله كله يختصره الكتاب الذي درسه وتعلمه، ووقف عنده، وعجز عن تخطيه إلى غيره. ورب حامل معرفة عميقة وهو أمي.
أمي يمكن بهذا الفهم أن نصنفه بأنه من عمالقة الثقافة، وكبار رجالها، رغم أنه لا ينفتح الحرف عن معناه أمام عينيه، ولا يحسن كتابة اسمه على الورق، إلا أنه إذا تكلم أفاض، والحكمة منه تأتي من منابعها تجربة ومعرفة بالناس والواقع والمتغيرات. وحوله متعلمون كثر يغرق الواحد منهم في نصف متر من قراءة الواقع، والرأي فيه.
هذه ضرورة معرفية سقطت فيما سقط من على السطر في كتابة الثقافة والحديث عن المثقفين، ما تعين إرجاع الفهم إلى الدلالة الشاملة والواسعة للمفردة ومعناها. ذاك يتجلى بوضوح عميق في الأميين الرجال الكبار الذين ربونا على الخير ومحبته، وعلى الجمال وتقديره، وعلى الفضيلة والرفعة إليها، هذا كله رغم أميتهم الرفيعة تلك. كانوا بحرا يستخرج من لآلئه نقي اللؤلؤ بتلقائية عريضة دون مزيد ادعاء، ولا فرض مكانة على الآخرين بوصفهم أكثر معرفة، أو أعلى منزلة بسبب علمهم، كما مني به كثير من المثقفين الجدد في كثير من المجتمعات العربية.
ولم يُصابوا بتلك النرجسية المريضة التي تجعل بعضهم ينسب نفسه إلى مكان بعيد كل البعد عن بيئته وواقعه ومجتمعه وأمته بوصفه فوقها جميعا وأفضل منها جميعا، أو كأن له حق ولاية القاصرين على مجتمعه، بوصفه الرشيد الأوحد على كل القاصرين من حوله، وذاك منطق، إسقاطُ الجهل، ووصم المجموع بالسفه، وغياب الوعي بالجملة، وهذا ما يظهره الفوقية، والشعور بالميزة والتميز على الآخرين ممن ينتسب إلى قلم، أو ينتمي إلى الثقافة وأقلامها.
إدراك الواقع، والعمق في فهمه دائما يمثلان خلاصة المعرفة وتبقى الحكمة التي تعني ''الصواب في الحكم على الواقع بما هو عليه، بحقيقته''، وبهذا يملك المجتمع الرافعة التي ترفعه عن مشكلاته التي تغرقه فيها، أو التي تجعله يتوقف أمامها. وهذا ما كان أكثر حضورا في حياة المجتمعات ''الأمية السامية''. لقد نجحت تلك المجتمعات في الارتفاع على كل مشكلاتها الحاضرة حين ذاك، أوغرت الأرض لتكن معابر مجاري المدن، ورفعت مبانيها لتسلم من غضب السيول، وألبست كل مدينة معصما من النخيل أخضر، يستكين الماء تحت عروقه، ويقف في وجه الريح إذا حملت الرمال في سيرها العجول. ورصدت الظاهرة المرضية، وقبضت على علاج أسبابها قبل التورط فيما ينتج عنها من عوارض فقل حين ذاك المرض على قلة الأطباء، وضعف آلة الطب، وآلة الطبيب.
كانت الآفاق ممتدة، والعمق لا ينتهي في طبقة العلماء منهم، وهذا ما يجعلنا اليوم لا قيمة لنا دون تراثهم العظيم فيما تركوه لنا من ميراث عظيم من الكتب والعلم في كل باب من أبواب المعرفة.
وخلف من بعدهم ''مثقفون''، أكثر شيء نجحوا فيه الاستعلاء على الخلق، وازدراء المجموع، وجعل شتيمة الناس، مهارات أدبية، من مهارات التعبير. وهم يعجنون الكلام ولا يخبزون للناس الحكمة، ويتناقض كل واحد منهم مع أخيه في قراءة الظاهر البين من الوقائع، ويتناقض المرء فيهم مع ذاته بين موقف وموقف، ويسقط في الحيرة إن التمس الناس منه قطعة من خشب تحول دون غرقهم في معضلة ذات شأن.
وفي زمانهم أغرقت السيول مدنا بسوء التخطيط، وغلبة الفساد وفي زمانهم قلت الفضيلة الحاضرة في حياة الناس، وارتفع المعروف فيما بينهم إلا أقله، وتعاظم من شأن الإحسان إلى بعضهم لقلة تمثله في مواقفهم وقلوبهم، وكان الصدق والأمانة الغريبتان في هذا الزمان وبين أهله. ساد الفساد وتعاظم، وعزت الثقة بين الناس حتى بات الإنسان يحتاط إلى أمره من زوجته، وتحتاط الزوجة من زوجها، وفي هذا كله نصائح بالمداومة عليه، وعدم تركه لشيوع الغدر، واستبطان قلة الوفاء في مكنونات الصدور، وطوايا القلوب، وهذا كله حصاد تربية المجتمعات المتعلمة والمثقفة، وتلك الصورة هي خراج الأمية السامية وتربيتها. ما لا ينبغي نسيانه أبدا: أن الثقافة هي المعرفة التي تنتهي بالإنسان إلى الخير والجمال والفضيلة.. وما عداها زبد يذهب جفاء ولا ينفع الناس ولا يمكث فيها ولو كان من أحبار المثقفين المتعلمين تزدحم قبل اسمه الألقاب. ذاك الأمي كان فاعلا في الحضارة وبناء الإنسان، والمثقف اليوم عاجز تمام العجز عن الاثنين معا.