أين تقع المراجعة الداخلية على خريطة الاقتصاد السعودي؟
أين تقع المراجعة الداخلية اليوم على خريطة الاقتصاد السعودي؟ إنه سؤال صعب، فالعلاقة بين المراجعة الداخلية والاقتصاد علاقة غير واضحة بعد، وأي اقتصادي سيجيب عن هذا السؤال بسؤال أشد صعوبة منه، فهل تسهم المراجعة الداخلية بطريقة أو بأخرى في زيادة الناتج المحلي؟ المراجعون الداخليون من جانبهم يصرون وبشكل مستمر على أنهم يضيفون قيمة إلى المنشآت التي يعملون فيها، وذلك على الرغم من الشك الذي لا يزال يحوم حول هذه الحقيقة. لكن لنعود بهدوء لفهم أين يجب أن تكون المراجعة الداخلية في هيكل المنشآت، وما هو دورها في الحوكمة، وهل تحمي المنشآت فعلا، أم أنها تشكل عبئا من خلال ما تخلقه من صراع وتأخير في الأعمال. لعله من المناسب هنا الإشارة إلى الملتقى الذي تقيمه الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين غدا الأحد 17 تشرين الثاني (نوفمبر) في مدينة الرياض، والذي أعطته الجمعيه عنوانا، غريبا بعض الشيء وهو المراجعة الداخلية، توجه الحوكمة.
لقد أكدت التجارب المريرة التي مرت على العالم، سواء بعد كارثة ''إنرون'' أو بعد انهيار ''برذرزليمان''، أو حتى بعد كل الفساد الذي فضحته الأزمة المالية العالمية، كل ذلك أكد بشكل لا لبس فيه أن الحوكمة أصبحت قضية محورية لسلامة الاقتصاد العالمي، وإذا كان العالم يناقش فكرة الحوكمة الاقتصادية لضبط أداء الاقتصاد الكلي للدول، فإن مبادئ حوكمة الشركات قد وجدت أرضا راسخة من خلال ما حققته من قبول عام مع قدرتها على بناء آلية واضحة ومقنعة للحكم الرشيد بمستويات عالية من الشفافية والإفصاح المقرونة بأنظمة فاعلة للرقابة الداخلية. هذه المبادئ المقبولة ــــ بتنوع جهاتها المصدرة لها في العالم ــــ أجمعت على إيجاد موضع أفضل لنشاط المراجعة الداخلية في الهيكل التنظيمي، موضع يضمن المزيد من الاستقلال والقدرة على الحركة المدعومة من أجل تقييم المخاطر وتقييم آلية عمل نظام الحوكمة ''إذا جازت كلمة نظام هنا'' وإجراءات الرقابة الداخلية الممصمة من أجل مواجهة تلك المخاطر المحتملة أملا في تجنيب الشركة المفاجآت التي قد تعصف بها وخاصة إذا تزامنت تلك المفاجآت مع أزمات سياسية واقتصادية قد تحجب عن الشركة سحب التمويل وفرص الإنقاذ كما حصل لأعرق الشركات في العالم.
في ظل هذا الوضع الجديد للمراجعة الداخلية وعلاقتها بمنظومة الحوكمة، تجد المراجعة الداخلية نفسها اليوم في وضع حرج جدا، فالطلب المحموم على خدمات المهنيين المختصين في المراجعة الداخلية وصل حدا يمكن وصفه بالطفرة وهو ما يستدعي عملا متواصلا من قبل جميع المؤسسات المهنية الراعية لترفع من مستويات الخدمة التي تقدمها، وتسعى إلى دعم الاختبارات المهنية وإقرار معايير صارمة للعمل وفقا لقواعد سلوك أخلاقية ملزمة للمهنيين. فالالتزام بالعمل المهني وحده هو الذي سيحمي المهنة من الدخلاء ويمنح المراجعين الداخليين القدرة على إضافة القيمة للمنشآت التي يعملون فيها، ومن هنا بالذات يمكن الإجابة على السؤال الذي بدأت به المقال، أين يمكن أن نضع المراجعة الداخلية في المملكة، فالمكانة مرهونة بما تحقق من التزام بالمعايير المهنية وبالقواعد الأخلاقية، فالقول بوجود المراجعة الداخلية لمجرد صدور نظام أو لائحة ملزمة بها لا يعني أن المهنة أصبحت في مكانها الصحيح طالما لم نلتزم بالمهنية ذاتها، وهذا يعني العودة إلى النقطة الأساس وضرورة بناء منظومة مهنية كاملة تبدأ بالنص الواضح على الالتزام الكامل بالمعايير الدولية الصادرة وأهمها أن يمنح المراجعين الداخليين ذلك الاستقلال الظاهري اللازم ضمن الهيكل التنظيمي وضمن نظام الحوكمة وذلك الاستقلال الذهني الذي يضمن عدم تقييد المراجعين بأعمال دون أخرى كحصرهم في أعمال المراجعة المالية ومراجعة العقود، أو القول بأنها مراجعة مالية سابقة ليس لها علاقة بالأداء أو تقييم المخاطر أو تحديد أوجه الضعف في نظام الرقابة.
المهنية المقصودة تقتضي أيضا التزام المهنيين بالحصول على عضوية الهيئات المهنية للبقاء على اتصال دائم بمستجدات المهنة، وأيضا حصول أولئك الذين يريدون الوصول إلى مناصب قيادية في مجال المراجعة الداخلية على الشهادة المهنية التي تضمن لهم المهارات والفنون الخاصة بهذه المهنة، وكل هذا ينتهي في حقل واحد وهو ضمان ألا يعمل في المهنة سوى المهني المدرب بشكل جيد، وأن يقفل الباب تماما أمام تحول المهنة إلى مجرد محطة انتظار قبل العودة لركوب قطار الترقية إلى المنصب التالي، فالتجارب التي مر بها أولئك الذي يرون وظيفة المراجع الداخلي محطة انتظار تؤكد أنه لا يمكن لغير المهني المحب لمهنته خوض تجربتها والتعامل مع جميع الإدارات الأخرى داخل المنشأة بروح المراجع المسؤول، وتحمل الصراع الذي قد ينشأ.
وهكذا يمكن القول إن المهنة في المملكة لم تزل تخطو خطواتها الأولى رغم ما صدر حتى الآن من أنظمة ولوائح فوجود المهنة مرهون بوجود المهني نفسه، وهنا بالذات ما زلنا في حاجة إلى عمل كبير وشاق قبل الوصول إلى قاعدة كافية من المهنيين يمكنهم إصلاح الخلل الحالي في رؤية رجال الأعمال والمؤسسات يتنوع قطاعاتها إلى أعمال المراجع الداخلي وتقبلهم لوجوده واستقلاله، وهذا ما يجب أن تقوده الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين.