حين اغتصبت آمنة

إننا نعيش في وطن يجب أن يحتوينا جميعا، يجب أن يتقبل خلافاتنا حين نختلف، يجب أن نتوقف قليلا عن الحديث عن أمجاد التاريخ، لنقرأ ولو لمرة واحدة واقعنا كما هو لا كما ينبغي أن يكون، يجب أن نتوقف عن الحديث عن شرف الموتى لترتفع أعيننا على رجال بلا شرف يتكاثرون حولنا، يأكلون من خبزنا، ويشربون من مائنا، آن الأوان لكي نعي أن ثمة فواصل في الأزمنة، كالبرزخ القائم بين الماء الأجاج والعذب الفرات! وأن لكل زمان أهله، وأن لكل زمان عقله، وأن لكل زمان رضاه وسخطه، أحلامه وحزنه.. يقينه وشكه.. وتقواه.. وفجوره.. خيره وشره، كماله ونقصه.
ما رضي عنه الماضون، قد يمجه من يأتي بعدهم، وما كرهوه فيما مضى قد يرضون عنه اليوم أو غدا.. ذاك لآن الزمان يغير كل شيء ولا يتغير، ويبدل الكثير من الأشياء ولا يتبدل! وكل شيء قد مضى، وكل شيء قد حدث هو حصاد أيدينا، وحصاد عقولنا، وصورة لذواتنا، في تطرفنا.. وفي قسوتنا، وفي أحلامنا المعلقة على خيوط الجهل، وأمام صراعاتنا المخجلة أمام العالم حولنا.
التاريخ هو أفعال الماضين، وهذا الذي يجعلنا نستيقن أننا لن يكون لنا تاريخ يُكتب، لأننا لم نفعل حتى الآن فعلا هو جدير أن يبقى حضارة وسبيلا وتاريخا. في القرن الحادي والعشرين، جدل يضرس على الوقيعة في الأعراض، وقذف المحصنات الغافلات، وتهوين الكرامة، هل تقود المرأة سيارة؟! أم تكون برفقة رجل يُستقدم من أصقاع الأرض ليكون المرافق الدائم لها؟! حديثٌ طال في سبع عجاف، جاء بعدها الحزم والقوة لمن يخرج عن سمع المنع وطاعة من فرضه.
حين اغتصبت آمنة لم يكن هذا الجدل بالقوة التي هو عليها الآن، هي طبيبة مصرية، إخصائية نساء، وزوجها طبيب عام، يسكنان الخبر. حين ذاك كانت قيادة المرأة "حرام مغلظ"، قبل أن يتحول إلى "مباح مقيد". وبذا كان لا بد من سائق يقوم بهذه المهمة السهلة جدا وهي إيصالها إلى عملها وإرجاعها منه فقط.
سنتان مضت، وهذا الباكستاني لا يقوم بعمل آخر أكثر من الذهاب والعودة، حين ذاك يعود الطبيب إلى المنزل ويخرجان معا.
كما هو كل مآسينا في هذه البلاد تقع الكوارث حين تلتقي اللامبالاة مع مصادرة المجموع خلف رأي واحد. كان الطبيب كرجل يشعر بيقين أن هذا أمر لا يُحتمل.. وأنه يظل قلقا على زوجته طيلة طريقها إلى الجبيل حتى تعود.. ويحدث أن تكون عودتها السابعة مساء، والتاسعة إن كانت عندها ولادة متعسرة، أو وصلت متأخرة بعد نهاية وقت عملها.
السائق يعرف كل خبايا المنزل، بألف طريق وطريق، وفعلا لم ينجحا في إخفاء سفر زوجها العاجل لمرض أمه، ولم تفلح طرق التمويه جميعها.
وفي الساعة الخامسة والنصف بالتوقيت الشتوي، وبعد يوم عسير وشاق ومرهق، نامت الدكتورة في طريق العودة على طريق الجبيل السريع، وكان كل شيء قد أعد، وكان كل شيء سبق أن تم التخطيط له وكان كل شيء مرسوما ومدروسا ومعلوما.
ألتف إلى مكان قد قدره مع شركائه تقديرا، وتم تخديرها بقطعة قماش، وحين أفاقت، كان خمسة قد تعاقبوا على اغتصابها وكان السائق قد أعد كل شيء لمثل هذه اللحظة من أكثر من سبعة أشهر.. وأنه كان في كل يوم يتحسس كل شيء حوله، متخفيا بلحية طويلة، وسواك، ومصحف لا يرفعه عن المقعد الأمامي، أي أنه طيلة وقته يقرأ فيه، وأنه كان يجدد المخدر طيلة سبعة أشهر ويحرص على وضعه في ثلج في براد صغير، أعده كأنه لشرب الماء.
حين عاد الدكتور من مصر وجد ــــ آمنة ــــ بقية تمثال جميل، ضمر وذاب، تآكلت روحها، باتت قصية، وبعيدة، تلك المياه النجسة صادفت خصوبة، فتعلقت برحمها لتكون جنين سفاح!
أدرك الدكتور.. أن الأمر قد شاع، وأدرك أن الجيران في القاهرة ينشرون التفاصيل ويطوونها قبل جيرانهم في الخبر.. وعرف لاحقا أن ثمة تصويرا قد حدث.. إلا أن المحقق لا يجزم إن كان هذا هو المقطع الوحيد!
إن هذا الصديق العزيز، سافر قبل أن يستكمل شيئا.. قبل أن يستكمل عقد عمله، وقبل أن يستكمل ملف التحقيق مع السائق، وقبل أن يهتم بالعقوبة ونوعها، وهل سيشمله عفو رمضان المبارك، وهل يتم ترحيله على نفقات الكفيل إلى بلده؟. كل هذا لم يعد يعنيه!
لقد سافر وسافرت معه بقية آمنة العفيفة الطاهرة.. ولكن في مقعدين متباعدين كالغرباء.. صامتين كالغرباء، لكل واحد منهما حزنه الذي يخصه، وخزيه الذي لا يشاركه فيه أحد.
من يطلب ألا تكون نساؤنا بيد غير مؤتمنة.. ليس بالضرورة على خطأ. وليس بالضرورة كافرا ولا فاجرا.. لعله كان رسول طهارة لكثير من أعراض المسلمين.
والسؤال الأكثر إلحاحا: كم آمنة تطويها جدران الستر والعار ومواراة الفضح والشماتة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي