رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الاستثمار والاحتراف الرياضي .. برج بيزا المائل

أجدني اليوم أكتب بحذر شديد، وكأنني ذلك الذي يمشي بين أغصان من الشوك، فالحديث عن كرة القدم السعودية وكل هذا التعصب يموج بها يمثل تحديا كبيرا على مثلي ممن لم يسبق له الكتابة في هذا المجال. لكن حديثي ليس تحليلا رياضيا صرفا، بل عما يحدث في الأندية السعودية من هدر ضخم للموارد، وذلك على الرغم من وقوف العديد من كبار العقول الاقتصادية على رأس هذه الأندية، وهؤلاء الاقتصاديون يدركون حقا معنى الاستثمار ويتفهمون القيمة وما هي أفضل وسيلة لتحويل الريال إلى 100، ومع ذلك فإن وضع الأندية السعودية التي ترمي بثرواتها -وبالتالي ثروة الأمة- في شراء اللاعبين بلا دراسة شاملة ولا مسؤولية ولا محاسبة حقيقية، لا لإدارات الأندية ولا للاعبين أنفسهم، هو ما لا يمكنني فهمه. ونعم هو جنون كرة القدم، لكن المسألة وصلت إلى ما بعد الجنون.
عندما بدأت السوق العالمية للرياضة في الازدهار مع انتشار ظاهرة بيع اللاعبين في بدايات العقد التاسع من القرن الماضي، اكتشفت العديد من الأندية أن اللاعب يمثل ثروة وقيمة في ذاته، وهو ما أصبح يسمى في عالم المحاسبة -الذي أتشرف بالانتماء إليه- رأس المال البشري، ذلك أن هؤلاء اللاعبين يمتلكون القدرة على خلق القيمة، ومن ثم الأرباح للأندية، فاشتدت على أثر ذلك رحى المطالبات بتطوير نظم محاسبية تمكن من قياس دقيق لقيمة كل لاعب وطريقة الإفصاح عن ذلك في القوائم المالية، ثم انتشرت ظاهرة تقييم رأس المال البشري فانتقلت لتقييم أثر انتقال رئيس تنفيذي أو مهندس معروف من شركة إلى أخرى، وهو ما انعكس على قدرة الشركة على زيادة الأرباح، وبالتالي أسعار الأسهم ''نظرا لما يملكه من أدوات ومهارات إدارية، أو هندسية، أو ابتكارات''، فلا بد من حساب قيمة هذه العقول والقدرات البشرية التي تستخدمها الشركات في خلق القيمة والنقد. فالموارد البشرية ثروة يجب التعامل معها بنظرة رأسمالية استثمارية جادة والتقرير عنها بشفافية. وهذه الأدوات المهمة التي طورها علم المحاسبة هي التي قادت الرياضة العالمية لتصبح تجارة كبرى، وأصبحت الأندية الرياضية في العالم تتسابق نحو شراء اللاعبين وإدراجهم في قوائمها، لما يقدمونه من قدرة على خلق النقد، ورفع قيمة أسهم الأندية. فاللاعب ''الذي تم شراؤه بأغلى الأسعار'' يجب أن يسهم في زيادة عدد حضور الجماهير إلى الملاعب ومن ثم زيادة الطلب على التذاكر وارتفاع أسعارها، وكذلك زيادة عدد الشركات المعلنة، كلما زاد عدد البطولات التي ينافس فيها الفريق وعدد المباريات التي يشارك فيها، ما يزيد من نسب الحضور والإعلانات والظهور والنقل الإعلامي وجميعها تسهم في خلق عوائد ضخمة للنادي، وهذا هو المعنى الحقيقي لرأس المال البشري فهو يسهم ''بذاته'' في خلق العوائد، وليس في خلق الديون.
مع الأسف تبعت الأندية السعودية -في ظل مفهوم الاحتراف- الظاهرة العالمية من بيع وشراء اللاعبين، لكن بلا أي مفهوم حقيقي لرأس المال البشري الذي وضحته، فلا محاسبة ولا تقارير، ولا زيادة في قيمة الأسهم فـ ''الفرق السعودية مجرد أندية اجتماعية''، ولا شفافية في الأندية الاجتماعية ولا معرفة حقيقية لحجم النقد والأرباح التي أسهم فيها اللاعبون للنادي. ولا لوم على قضية عدم وجود فكر متطور لمفهوم المحاسبة عن الموارد البشرية لدينا، ولكن اللوم كل اللوم أن نندفع وراء ظاهرة شراء اللاعبين ''بأغلى الأثمان'' بلا مبررات عملية ولا استثمارية ولا حتى تفسرها أبسط قواعد المحاسبة والتقارير المالية. وإلا فما هو المبرر لكي يصل ثمن انتقال لاعب إلى أكثر من 20 مليون ريال ثم لا يلعب سوى بضعة مباريات يهزم الفريق فيها ويخرج من البطولات هي لم تكد تبدأ، ثم يضعه المدرب في خانة الاحتياط حتى يقرر النادي إعادة بيعه بخسائر هائلة، تدفع الأندية الملايين في عدد كبير من اللاعبين ليخرج الفريق ''الثمين'' مبكرا من جميع البطولات ويجلس اللاعبون ''والملايين معهم'' أمام الشاشات يراقبون باقي الأندية وهي تتنافس على أهم البطولات العالمية ''التي ترفع أسهم الأندية وتحقق لها عوائد ضخمة''. لا مبرر لكل هذا ''سوى الهدر والعبث بالموارد''، لا مبرر في أن يصل الاستثمار في اللاعبين إلى 30 مليونا، ثم لا يسهم هذا اللاعب بطريقة واضحة في جذب الجماهير إلى الملاعب، أو استمرار النادي في الظهور في المناسبات الرياضية والبقاء في البطولات المحلية والدولية حتى آخر نفس من الموسم، فضلا عن المساهمة بشكل لا لبس فيه في حصول النادي على هذه البطولات، ومن ثم زيادة قدرات النادي في التفاوض مع الرعاة والمعلنين.
نعم، هناك مشكلة كبرى، واجهت الاحتراف الرياضي في المملكة، ذلك أن القاعدة الأساسية التي يبنى عليها لم تكن موجودة فهو كمثل برج بيزا المائل، لا تعرف هل بقاؤه أعجوبة أم ميله هو العجب؟. فاحتراف اللاعبين في أندية اجتماعية ''غير محترفة'' هو التناقض، الاحتراف مفهوم رأسمالي قام ونشأ في ظل اقتصاديات رأسمالية، ويجب أن تعمل به مؤسسات رأسمالية وليس اجتماعية. فهذه ''الاجتماعية'' هي التي خلقت هذا الحجم من اللامبالاة في قضية شراء اللاعبين المحترفين، فالمسألة عند إدارات الأندية ليست استثمارية أبدا بل قضية ''ناد اجتماعي'' يقوم على جمع الشباب في وقت الفراغ، لكن التناقض المفزع أن هؤلاء الشباب محترفون ومتفرغون للعب كرة القدم فليست وقت فراغ عندهم وليست القضية مشكلة اجتماعية أبدا.
وكما قلت في بداية هذا المقال إنني أشعر كمن يمشي بين أغصان من الشوك، وهنا تتراص الأغصان فلا أجد لي مخرجا من هذا المقال، فلست بالرياضي المتخصص حتى أكثر من النقاش، لكن أسعار اللاعبين بدأت تخرج عن المعقول وعن أي تبرير وفق أية نظرية، ولا بد من إعادة ترتيب الأمور حتى يستطيع المجتمع أن يعرف من يحاسب في هذا الشأن، فهذه الثروات التي تهدر -في ظل وجود شباب لا يجد عملا- يجب أن تقف هنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي