هل جودة التعليم تعني المبالغة في توظيف التقنية؟
لقد أصبحت مهمة ''التربية والتعليم'' في عالمنا المعاصر غاية في التعقيد، خصوصا مع تطور أدوات وأساليب التعليم وصعوبة التفرقة بين المهارة والأداة؟ وبين المعرفة والعلم؟ وبين الوسيلة والغاية؟ والذي زاد من تعقيد مهمة التعليم وبعد الكثير من مؤسسات التعليم عن رسالتها دخول التقنية في هذا المجال- أي تزاوج التعليم مع التقنية- وظهور مصطلحات أضرت بالتعليم أكثر مما أفادته، خصوصا في الدول النامية التي لم تستطع أن تدرك أن التقنية وسيلة تعليمية كالسبورة والفانوس الضوئي والصحيفة الورقية المعلقة على الحائط.
وقد أدى توظيف التقنية في التعليم إلى تعقيد مهمة هذا الأخير وبعد كثير من مؤسسات التعليم العالي والعام عن رسالتها وانحراف بعضها عن مسارها، ولم تحقق أهدافها نتيجة المبالغة في توظيف التقنية، حيث أضحت مؤسسات التعليم تركز على التقنية وتهمل تنمية مهارات الطلاب الأساسية وسلوكياتهم الجوهرية وترسيخ القيم الثقافية والدينية، وترى أن جلب وتوظيف التقنية يعني تطور التعليم، وتظن أن هناك علاقة طردية بين التقنية وجودة التعليم.
فها هي الجامعات تتسابق في تقديم التعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد وقد تم بالفعل تدريس مواد كاملة وتقديمها إلى طلاب منتظمين عن طريق التقنية، فأصبح الطلاب الشباب اليافعون ينامون ملء جفونهم في منازلهم، فلم تعد هناك حاجة إلى حضورهم إلى قاعة الدرس. وعمل كهذا أدى إلى تسيب وإهمال وفقد كثير من المهارات السلوكية وتلاشت بعض الأعراف والتقاليد الجامعية بسبب بعد الطالب عن البيئة الأكاديمية وعدم احتكاكه بأساتذته وأقرانه في البيئة الجامعية.
ولم يقتصر تقديم التعليم عن طريق التقنية على مؤسسات التعليم العالي، بل تبنت التربية والتعليم وبالغت في جلب التقنية وأرغمت الطلاب والمدرسين ومنسوبي الإدارات على التعامل معها. وقد يقبل توظيف التقنية إلى حد ما في مؤسسات التعليم العالي إلا أن هذا غير مقبول البتة في مجال التعليم العام فالطالب في هذه المرحلة لم تكتمل شخصيته ولم يتقن المهارات الأساسية من قراءة وكتابة ولم يتعلم بعض السلوكيات ولم تترسخ في ذهنه القيم التعليمية والتعامل مع أساتذته ورفقائه في المدرسة. لهذا يمكن أن نقول إن جلب التقنية في التعليم ليست من الأولويات ولا تعني البتة تطور التعليم؛ فليس هناك علاقة بين التعليم الجيد وبين التقنية العالية.
وهنا نريد أن نبين بعض السلبيات التي لم ترها ''التربية والتعليم'' نتيجة المبالغة في توظيف التقنية في التعليم العام. ترغم ''التربية والتعليم'' الطلاب على استكمال بعض واجباتهم الدراسية عن طريق التقنية. فبعض المهام المدرسية تتطلب أن يتعامل الطالب يوميا مع الإنترنت عن طريق دخول مواقع معينة للاطلاع على التعاميم والاستفسار عن بعض المعلومات مثل الدرجات وتغيير مواعيد الاختبارات والنقاش مع مدرسه وزملائه في الفصل عبر النت. وقد يكون هذا مقبولا إذا كانت القضية متوافرة للجميع، إلا أن كثيرا من الطلاب لا يمتلكون مقومات التعامل مع التقنية كجهاز حاسب آلي بسبب أن ولي أمره لا يستطيع توفير مثل هذه الإمكانات؛ فهو يسعى جاهدا إلى توفير الحاجات الأساسية من طعام وملبس، ولا يعد توفير التقنية لأبنائه في قائمة اهتماماته. وإن امتلك البعض جهاز الحاسب فلا يستطيع الوصول إلى خدمة الإنترنت، ونتيجة هذه الصعوبات نرى الطلاب يتسارعون فرادى وجماعات إلى مقاهي الإنترنت التي يكون بعضها بعيدا عن مقر إقاماتهم، نتيجة أن بعضهم يقطن في القرى أو في ضواحي المدن. وعمل كهذا يكلف الطالب وأسرته الشيء الكثير؛ نتيجة أن بعض الأسر لا تستطيع أن تغطي تكاليف التعامل مع التقنية، خصوصا أن البعض لديه عدة أبناء في عدة مراحل تعليمية وفي مدارس مختلفة. كما تصحب رحلة الطالب من منزله إلى مقهى الإنترنت مخاطر جمة؛ فقد يرى تصرفات مشينة تصدر من بعض مرتادي المقهى الذي يرتاده العاقل والأحمق والمتعلم والجاهل والحصيف والمتهور. فقد يطلع الطلاب- الذين أتوا من منازلهم لإكمال واجباتهم المدرسية- على تصرفات غيرهم من الكبار، وهم يتنقلون من موقع إلى آخر، ومن منظر غير لائق إلى صورة تخدش الحياء، وبدلا من أن ينهي واجباته المدرسية فقد يستهويه جانب لم يكن يخطر بباله.
هذا من ناحية الطالب، أما المعلم فالحديث عنه يطول، فنحن نلاحظ أن بعض المعلمين لم يستوعبوا بعد التسارع غير المسبوق في مجال التقنية، ولهذا نجد أن الطالب أكثر مهارة في استخدام التقنية من المعلم. وهذا لا يعد قصورا في المعلمين؛ لأن الصبية وصغار السن لديهم مقدرة طبيعية في استيعاب المهارات مثل اللغات والتقنية وبعض الرياضات، كالسباحة مثلا أكثر بكثير من الكبار. ونتيجة لهذا القصور لدى بعض المعلمين في استيعاب التقنية نرى البعض يركز على كيفية التعامل مع التقنية على حساب الجانب العلمي للمادة. فيبذل المزيد من الجهد والوقت في استيعاب التقنية ويهمل المادة العلمية ولا يقدمها كما يجب.
لهذا نريد أن نقول لمؤسسات التعليم في بلادنا وخصوصا التعليم العام إن جودة التعليم لا علاقة لها البتة بالمبالغة في توظيف التقنية وعليها أن ترى المآسي والمعاناة التي تواجه الطلاب نتيجة السعي من مقهى إلى آخر لتعهد متطلبات مدارسهم وأداء واجباتهم. كما أن هناك أولويات كثيرة ينبغي على ''التربية والتعليم'' أن تتعرف عليها وتقدمها بشكل جيد، ولا أظن التقنية من أولويات التعليم؛ فهناك الكثير والكثير الذي يحتاج إلى بناء وتشييد واهتمام.
وأهم مهمة للتربية والتعليم هي تطوير المعلم معرفيا وسلوكيا وانضباطيا، وقد تكلمنا كثيرا عن هذا ولن نتوقف عن الحديث عن أهمية تطوير المعلم حتى نرى ذلك واقعا نلمسه ونرى النجباء والنخب تتوجه طواعية إلى التربية والتعليم.