متناقضات سياسة تنويع الدخل
منذ أن منَّ الله علينا بهذه الثروة النفطية الكبيرة، بعد فقر شديد وعوز مخيف، ونحن نرفل بنعم لم نكن نحلم ولا بجزء يسير منها. فأصابنا منها الوهن وتركنا العمل وبذل الجُهد حتى ترهلت أبداننا ورضينا بأن نكون من المخدومين، ظنًّا منا أن الدخل النفطي الكبير الذي ينهال علينا دون حساب سيدوم لنا أبد الدهر. ولكن هيهات، فالشيء القابل للنضوب والزوال زائل لا محالة. وإذا لم نضع في حسابنا عصر ما بعد النفط ما دمنا بخير ونعمة، فلن يكون لنا مكان على أرض هذه الصحراء ولن نتمكن من الخروج منها، ومصيرنا المجهول علمه عند الله.
ونحن نعلم أن ثمة همة وتخطيطا لدى القائمين على شؤون هذه البلاد منذ ما يربو على 40 عاما، تحت مسمى ''الخطط الخمسية''، من أجل إيجاد مصادر ولو كانت متواضعة، لتنويع الدخل العام لعلنا نستطيع الوقوف على أقدامنا عندما يشرف عهد النفط على الأفول. ولكننا وبعد أكثر من ثمان محاولات لا نزال نراوح مكاننا، ولا تزال المداخيل النفطية تكوِّن 95 في المائة من حجم ميزانية الدولة، ونحن الشعب نأكل ونشرب مما نستورد. ونحاول فهم عدم نجاحنا في تحقيق أي تقدم نحو الهدف المنشود، وهو إيجاد مصدر دخل لا يمت لا بصلة قرابة ولا نسب للمشتقات النفطية. فمن الواضح أن هناك عقبات تقف أمام جهودنا. فالرغبة موجودة والحاجة لا جدال فيها، ومرور مزيد من الوقت ليس في صالحنا، في الوقت الذي لم نألو جهدًا في استنزاف ثروتنا المحدودة. حتى إننا نستخرج منها ما يزيد بكثير على حاجتنا وتدر علينا فوائض مالية كبيرة تضعنا كدولة غنية، بل إن العالم المتقدم يصنف اقتصادنا المتمثل في دخل النفط على أنه الأسرع والأعلى نموًّا، مقارنة مع الاقتصادات ''الحقيقية''. وهو، دون أي شك، تصنيف خاطئ ولا يعبر عن الواقع، ونشك في مقاصده.
وهنا نحتاج إلى وقفة تأمل. أليس من معالم المتناقضات أن نتحدث ونخطط لدخل مستقل عن النفط خوفًا من انقطاع الدخل قبل أن يكون لدينا مصدر آخر، في الوقت الذي نضاعف فيه إنتاجنا ودخلنا منه، وهو ما يعني سرعة نضوبه؟ فلا بد لنا من أن نمارس شيئا من التقشف والاعتدال في جميع شؤون الحياة حتى نضع أنفسنا في وضع نفسي مريح يساعد على بذل الجهد والإنتاج المثمر. وهذا يذكرنا بمواقف نشاهدها كلما تطرق الحديث مع المواطنين إلى موضوع ترشيد الطاقة. فالمواطن يسمع ويقرأ عن وجود أكبر ثروة نفطية في العالم تحت أرضنا وفي متناول أيدينا. وفي الوقت نفسه، نحن أكبر منتِج للنفط في العالم. وترشيد استخدام مصادر الطاقة، سواء منها استخدام الوقود أو الطاقة الكهربائية، يحتاج منا إلى نوع من التضحية وبذل الجهد والقبول بالأقل. فيقول المواطن، لماذا تطلبون منا التقشف والتضييق على أنفسنا ولدينا هذه الثروة التي تقولون عنها إنها سوف تظل باقية إلى ما يقارب مائة عام؟ وهذه الفوائض المالية الضخمة التي تنهال علينا ونحن لسنا في حاجة إليها؟ دعونا نتمتع بها إلى ما شاء الله. فإذا كان هذا موقف المواطن، فكيف تقنعه بضرورة الترشيد وحجتك ضعيفة؟
أما العقبة الرئيسة الأخرى التي تقف في وجه تحولنا إلى شعب منتِج يعيش ولو نسبيًّا على ما تنتجه سواعده، فهي وجود ملايين العمالة الوافدة التي تحتل جميع مراكز العمل الخدمي والإنشائي. وشبابنا عاطل أو شبه عاطل، فالمهم أنه غير منتِج. وهذا يتطلب وجود نظم وقوانين صارمة تحمي حقوق المواطنين ويكون هدفها إحلال المواطن محل الأجنبي في القطاعين الخاص والعام. وهذا يحتاج إلى عمل خطوتين مهمتين. الأولى توفير مراكز تدريب متخصصة على حساب الدولة لكل مهنة، حتى نقضي على عذر عدم الإلمام بالحد الأدنى من المهارات المطلوبة. والشق الثاني، وهو المهم، فهو رفع سقف أجور المواطنين إلى المستوى الذي يتناسب مع مستوى المعيشة في بلادنا، مهما بلغ ذلك، حتى نضمن لكل مواطن حياة سعيدة يتمتع فيها بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. ومنها الحد من استنزاف العمالة الوافدة لمقدراتنا، وكون وجودهم أصلاً على أرضنا عبئا على اقتصادنا، وعلى وجه الخصوص الفئات التي تسرح وتمرح بحرية كاملة تحت كفالة ضعاف النفوس. وهي التي تبيع وتشتري لحسابها أو تعمل لحسابها في الورش والمرافق العامة دون حسيب أو رقيب. ناهيك عن كثير من المهن البسيطة التي من الممكن أن يؤديها المواطن إذا وجد فيها دخلاً يؤمن له الكفاف من المعيشة. وهذه هي حال الشعوب التي تريد أن تبقى على قيد الحياة. فلا حياة دون عمل وتعب. والمهم ألا نترك المواطن يسبح وحده في بحر لجي من عالم البطالة بسبب فوضى الاستقدام. فلا بد من تنظيم يضمن لكل ذي حق حقه، حتى ولو أدى ذلك إلى إغضاب أصحاب المشاريع ورؤوس الأموال، مع ضمان حقوقهم المشروعة التي تتمثل في انضباط العامل المحلي وعدم الإضرار بمصالح أصحاب العمل.