متى يصبح المجتمع مريضاً؟
المجتمعات كالبشر تنمو وتصحو وتتطور وتتألق وتتنافس، ولكنها أيضاً يمكن أن تتخلف وتمرض ويصيبها الوهن والفتور لتبقى زمناً على هامش التاريخ! وبعيداً عن عمق الفلسفة التي تزخر بها الكتب والمؤلفات، ليس من الصعوبة الانتباه إلى مجتمع ينمو ويتطور وينافس على الساحة الدولية في مجال الأدب والعلم والتقنية، وفي المقابل، ليس من السهولة تشخيص معاناة مجتمع ما من المرض أو إصابته بالعدوى، خاصة في بدايات الإصابة، ربما لضبابية المعايير وغياب الموضوعية وفرط الحساسية وكثرة الجدل حول أدوات التشخيص!
فمن النواحي العلمية ليس من الصعوبة رصد الإنتاج العلمي وبراءات الاختراع، وفي المجال الاقتصادي هناك أدوات أثبتت جدواها لعقود طويلة لتشخيص الصحة الاقتصادية للمجتمع، ومن النواحي التقنية هناك مؤشرات متفق عليها، إلى جانب ما يمكن للأسواق العالمية أن تشهد به من مخترعات ومنتجات صناعية وتقنية! ولكن السؤال هنا، عندما يفقد المجتمع كل هذه المؤشرات أو بعضها، هل يمكن أن يُوصف بالمرض أم الكسل والوهن؟!
يستدرك أحدهم بالقول: وماذا عن القيم الإنسانية ومستوى حضورها في المجتمع؟ أليست مؤشراً لوعي المجتمع وإنسانيته التي تفوق كل التقنيات والمؤشرات العلمية والاقتصادية المذكورة آنفاً؟
أقول: بلى، لكن ما قيمة هذه القيم الإنسانية النبيلة التي يتغنى بها أفراد المجتمع إذا لم تنعكس في سلوكيات جمعية أو فردية، وتؤدي إلى إنتاجية عالية، وتضفي ظلالها على جميع مكونات المجتمع بالأمن والرفاه؟!
ربما يدور الجدل حول صعوبة تشخيص وعكة مؤقتة تصيب المجتمع، ولكن لا يمكن الاختلاف حول مدى معاناة المجتمع من مرض عضال مزمن! وبناء عليه، فالمجتمع يُصنف مريضاً، إذا أصبح أفراده أو بعض جماعاته أو مكوناته يبررون القتل لبني جلدتهم دون حق، وذلك دفاعاً عن أفكار أو مبادئ أو أيديولوجيا أو مصالح حزبية أو عرقية! هذا بلا شك أحد الفيروسات المسببة لإصابة المجتمع بالمرض الذي قد يعوق تقدمه، بل ربما يفضي إلى موته وتفكك أوصاله! ومثال صارخ لإصابة المجتمع بالمرض ــــ لا يمكن الاختلاف بشأنه ــــ يتمثل في العراق (المريض). فالقتل والتصفيات الجسدية على أسس عرقية ومذهبية، أصبح ممارسة يومية .. لقد أصبح العراق يحتضر وفي مهب الريح لمزيد من الفوضى وربما التفكك. ليس بالضرورة أن يتكرر النمط العراقي بكامل مواصفاته في أماكن أخرى، ولكن من المؤكد أن ينزلق أي مجتمع (أو وطن) عندما يُصاب بالمرض تدريجياً نحو مصير مجهول محفوف بالفوضى والارتباك!
يسري فيروس المرض في المجتمع ''أي مجتمع''، عندما يصبح التعيين في المواقع القيادية والوظائف العليا بناء على محسوبيات اجتماعية أو انتماءات حزبية وعرقية أو مناطقية، مما يثبط الهمم، ويقتل الطموح، ويضعف الانتماء الوطني، ومن ثم يحد من الإخلاص في خدمة الوطن والذود عنه!
يُصاب المجتمع بالمرض عندما يفقد أفراده الاهتمام بقيم العمل والحث عليها، بل يعاني ''الفصام'' بين ما يتحدث به الناس في مجالسهم، وبين ما يمارسونه على أرض الواقع في أعمالهم وتعاملهم الإنساني مع غيرهم!
يُصبح المجتمع مريضاً عندما يؤمن بالخرافات أكثر من الإيمان بالعلم، ما يؤدي إلى الانصراف من الاهتمام بالبرامج العلمية والثقافية إلى تخصيص برامج كثيرة على القنوات الفضائية تُبث في أوقات الذروة، من أجل تفسير ما يخالج النفس من هواجس، وما يرى الناس في منامهم من أضغاث أحلام، ليتمكن المفسرون ــــ من بعد ــــ من تشخيص مستقبلهم واكتشاف ما بأجسادهم من أمراض عضوية وعلل نفسية، أو عندما يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لرقاة يعبثون بالناس ويمارسون ما يتعارض مع القيم الدينية باسم الدين!
هذه أمثلة لبعض ''وليس جميع'' أعراض إصابة المجتمع بالمرض، وأسال الله لمجتمعاتنا العربية السلامة من العلل والأمراض، وأدعو الله أن تتمكن من الوعي بأهمية التحصين المبكر للوقاية من أمراض قد يصعب الخلاص منها أو الشفاء من أعراضها الجانبية!