أحلامنا وأوهامهم حول تقسيم الدول العربية

تداولت وسائل الإعلام بجميع أنواعها الخريطة التي نشرتها صحيفة ''نيويورك تايمز'' قبل أيام ضمن مقالة للباحثة روبن رايت Robin Wright تحت عنوان ''كيف يمكن لـ 5 دول أن تصبح 14 دولة How 5 countries become 14، وقد اعتمدت في إعادة تقسيم الدول العربية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية. وهي تُذكرنا بإعلان مفهوم الشرق الأوسط الجديد من قبل كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عندما كانت في زيارة لإسرائيل في عام 2006، الأمر الذي يعكس دلالات لا تخفى على عاقل! ويُذكرنا كذلك بالخريطة التي تضمنتها المقالة التي كتبها رالف بيترز Ralph Peters في العام نفسه تقريباً. وعلى أية حال، تتوقع روبن رايت في مقالها أن تنشأ دولة ''شمال العراق'' التي تتكون من أجزاء في شمال شرق سورية وإقليم ''كردستان''، كما تنشأ دولة علوية ''علويستان'' على ساحل البحر المتوسط، في حين تندمج المناطق السنية في العراق وسورية في دولة واحدة، أطلقت عليها اسم ''سنة ستان''، وفي جنوب العراق تنشأ دولة للشيعة أطلقت عليها ''شيعة ستان''، وتنشأ ـــ كذلك ــــ دولة جديدة في ''جبل الدروز''، وإلى جانب ذلك أشارت إلى انقسام اليمن إلى دولتين، وتفكك ليبيا إلى ثلاث دويلات ''طرابلس، وبنغازي، وفزان''. ولم تسلم أكبر وحدة سياسية في تاريخ الوطن العربي من توقعاتها، فأشارت إلى تقسيم المملكة إلى خمس دويلات وفق اعتبارات قبلية وطائفية، واحدة في الشرق، وأخرى في الغرب، وثالثة في الشمال، ورابعة في الجنوب، والخامسة في الوسط تحت مسمى ''وهابستان''.
لا ينبغي أن تمر هذه المقالة أو التقرير على العرب مرور الكرام، فالأوهام ربما تثير الفتنة أو تتحول في بعض الحالات إلى واقع مؤلم، لذا ينبغي فهم أبعادها ومدلولاتها، ومن الأهمية بمكان استيعاب النقاط التالية:
أولاً: لم تتعرض المقالة والخرائط إلى إسرائيل التي تقوم على الطائفية الدينية والتمييز العرقي، وهذا يعكس تدني مستوى موضوعية الكاتبة!
ثانياً: إذا كانت الكاتبة تستند إلى وجود عناصر التقسيم والتفكك، فإن عناصر التقسيم موجودة في معظم دول العالم، مثل ألمانيا وكذلك في بريطانيا وكندا وأمريكا، فعلى سبيل المثال، سبق أن طالبت مقاطعة ''كويبك'' بالانفصال. وهناك دول تتميز بعدم تجانس بين مكوناتها السكانية كالهند التي تشتمل على عرقيات وأديان ولغات متعددة، وماليزيا التي تشتمل على ثلاث مكونات سكانية رئيسة، ولكن كل هذه الدول تسعى إلى تعزيز الاندماج والوحدة الوطنية بين أجزائها ومكوناتها السكانية.
رابعاً: لم يتناول المقال دور الولايات المتحدة الأمريكية في تفكيك دولة العراق بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل وربما إثارة النعرات الطائفية واستغلالها وتأجيجها لتحقيق بعض المآرب، خاصة بعدما فشلت في السيطرة على العراق وتزايدت خسائرها البشرية.
خامساً: إن ما يتم تداوله من كتابات بين الحين والآخر يسعى إلى تقسيم الدول العربية المقسمة أساساً وتجزئتها إلى دويلات صغيرة جداً على أسس طائفية وعرقية وقبلية، لا حول لها ولا قوة، ما يُسهل السيطرة عليها، ومن ثم يجبرها لتكون تحت حماية إحدى الدول الكبرى.
سادساً: ينبغي أن نستوعب أن التقسيم والتفكك الذي يجري ''الآن'' في أجزاء من الوطن العربي سيكون أشد قسوة من مشرط ''سايكس ــــ بيكو'' لصعوبة لملمة الأمة العربية من جديد، لأنها عندئذ ستكون مفككة على أسس طائفية وعرقية تطمس ما تبقى من هويتها العربية.
سابعاً: يتم تداول مقترحات التقسيم والتصريح بها من وقت إلى آخر لاستخدامها كورقة ضغط على الدول العربية لتحقيق تنازلات فيما يتعلق بتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، واستخدام سلاح ''حقوق الإنسان'' للهجوم على أي بلد يقع عليه اختيار التفكيك!
ثامناً: أغفلت الكاتبة حقيقة أن المملكة تُعد أكبر الوحدات السياسية التي قامت على دمج قبائل متحاربة في كيان ينعم بالاستقرار والانسجام النسبي الذي يفوق ما تحقق في كيانات أخرى مشابهة، وذلك بقناعة جميع الأطراف من القبائل والطوائف بأن هذا الكيان السياسي (المملكة) يوفر لهم الأمان والاستقرار ويعزز التنمية، واقترحت ــــ الكاتبة ــــ تقسيمات لا تقوم على أوهام في رأس الكاتبة!
تاسعاً: تتحمل الدول الكبرى مسؤولية تمديد الأزمة السورية لفترة طويلة، ما يعطي الفرصة لتدمير البشر وتعميق الجرح الطائفي وتعزيز الانقسام الذي يزيد صعوبة لملمة الدولة السورية من جديد. ومن السذاجة بمكان القول بعدم وجود مصلحة لأطراف خارجية في هذه المماطلة. لذلك استشعرت المملكة خطورة الوضع على منطقة الشرق الأوسط مبكراً، وبادرت بحث الدول لتبني حلول عاجلة للأزمة السورية.
وعلى الرغم من النقاط السابقة، فإنه لا بد من الاعتراف بأن هذا المقال ما كان ليحظى باهتمام الإعلام والساسة لولا معاناة المنطقة الطائفية المقيتة والتشدد الديني الذي يحول دون التعايش السلمي. لذلك ينبغي أن تؤخذ هذه المقالة وأمثالها كناقوس خطر يوقظ ''النائمين'' إلى ضرورة اتخاذ خطوات جادة لتقوية اللحمة الوطنية وزيادة الاندماج والانصهار بين مكونات المجتمع، والحد من تأثير الطائفية والقبلية من خلال بناء المؤسسات وضمان الحقوق والعدالة والديمقراطية.
أما بالنسبة إلى دول الخليج العربية، فينبغي أن يُفهم ''الاتحاد الخليجي'' الذي نادى به خادم الحرمين الشريفين بأنه لم يعد ترفاً أو نشاطاً يدخل في باب صلة الرحم والتواصل بين الأقارب وأبناء العمومة الخليجيين، وإنما أصبح ضرورة لاستمرار الاستقرار واستدامة التنمية والوقوف أمام التيارات العاتية القادمة من كل الاتجاهات.
لا بد من الإسراع في تحقيق إصلاحات على أرض الواقع في مختلف المجالات ومكافحة الفساد والمحسوبيات التي تؤثر على الانتماء الوطني، وهذا الاهتمام انعكس في كلمة الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد السعودي ــــ يحفظه الله ــــ التي يقول فيها (بالنص من جريدة ''الاقتصادية''): ''إن ضمان الاستقرار في الدول لا يأتي بالتمنى، بل بالعمل الجاد لإقامة العدل بعمل منهجي منظم يقوي مؤسسات القضاء ويفعل أدوات رصد الفساد ويعزز النزاهة وينشر ثقافتها ويضمن بالتشريعات والأنظمة والقوانين حقوق المواطنين وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم''.
ومما يعوق الاستقرار في دول الربيع العربي أن الدول أو الأنظمة السابقة لم تستطع ''أو لم تحاول'' إدماج الفئات والطوائف في دول وطنية حديثة، إذ بقيت بعض عناصر التقسيم خامدة إلى حين انهيار تلك الأنظمة لتظهر من جديد، نتيجة تردي الأوضاع وازدياد انتهاكات حقوق الإنسان والتشدد الديني وكذلك إسهام بعض القوى المستفيدة في إشعال الفتنة، وفوق هذا وذاك، أخفقت الدول العربية والأنظمة الحاكمة في تغذية مواطنيها على استيعاب المعنى الحقيقي لمفهوم ''الوطن'' قولاً وعملاً!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي