قاصدون.. عتبة الرضا.. رواية الحج ومقاصده
كان قد غادر الخمسين عن قريب هذا الأمريكي من أصول فارسية بعيدة جدا، فقد ولد في وطن الحلم الكبير حينذاك، وارتفع معه حين ارتفع، وصعد في موجة الفرص المتاحة للجميع حين أتت.
جاء لأنه بلغ الـ 50 ليؤدي ركن الإسلام -الحج- وهو لا يعرف عن هذا ''الحج'' غير طيور النورس البشرية والبيضاء بملابس إحرامها، وهي تتنقل بين أركانه، وفي غمرة شعائره، وتتريث متعددة الأحوال في موقفيه عرفات ومزدلفة.
كان هذا القادم من مجتمع، براجماتي النزعة، مادي التفكير، شرس الرغائب، ينظر إلى كل شيء بما يشبه الصدمة، بما يشبه الحيرة، بما يشبه السؤال المعلق في عينيه، وفي تردده، وفي كثرة الترقب.. إلا أنه سعى مع من سعى، وطاف مع من طاف، وكان لا بد له أن يلوذ بقلبه مع من يلوذ ويلتجئ.
سألني وأنا وإياه في الطابق الأخير من بيت الله الحرام، وكان الصحن الشريف، تحتويه وفود، تسلمه لوفود تأتي بعدها، بطيئة السعي، بادية التعب.. حين نظر طويلا، وشعرت كأنه غار قلبه بعيدا للمرة الأولى، أدركتُ ساعتئذ أن الكعبة بروحها الغامرة قد احتوته، بحضورها، بجلالها، بجمالها. بخشوعها المسترسل المهيمن.. قال لي:
- إن الله لا مكان له يحدد وجوده فيه، هو في كل مكان.. في كل زمان.. في كل لحظة؟ هل من سبب لتأتي هذه الفريضة بهذا الشكل الذي هي عليه.. وفي هذا الزمان المحدد أيضا؟
- إن الدائرة واسعة كل السعة يا صديقي، وإن بصرك بهذا الشعور الذي غمرك في هذه اللحظة لا يحيط به بتمامه، ولا يحيط به كله. إن بصرك، كما هو وعيك لا يدرك الحواف، لا يدرك النائي ولا ينتهي إلى القاصي البعيد.
دعني وإياك لا أنبئك عن الظاهر والباطن، ولا عن نشأة الحس والمحسوس، ولا الرحمة المكانية والفيض في بركة الزمان.. إن ذاك حديث يطويه قصر الزمان، وحرمة تفويت بركة المكان عليك.. وأنت الذاهب عنه، وقد لا تعود إليه تارة أخرى.. لأن الوفادة على الله، تفتقر إلى رحمة خاصة منه يفيضها عليك.. لتكون ممن اختصهم لهذه الضيافة الإلهية وهذه الرحمة عظيمة السعة.
سأروي لك قصة صغيرة، تنشر الكثير مما تطويه الفلسفة وجدل رجالها، في مباحث العلة في التشريع، وما يدركه العقل، وما يستعصى عليه إدراكه ويعجز عنه فهمه.
أصغ إلي بقلبك، إن بعض المعارف كالحب لا يأتي إلا من باب القلب.
يروى أن أحد الصالحين، غار من قلبه خشوعه، وغار عنه إقباله على ربه، فضاق صدره، وأسف على نفسه، وظن بنفسه ظن السوء.. فخرج يمشي على غير هدى.. وقد تضرع إلى الله.. أن يعيده إلى المنزلة التي رفعه إليها، وألا يحرمه من الرقة التي كان عليها ولا يرسله مع قلوب كالحجارة أو أشد قسوة.. وأن يجعل قلبه متصدعا من خشية الله، وتجليه.. تعب العابد من حرارة الشمس، جلس على عتبة بيت بدا كأنه غاب أهله عنه من أمد بعيد وإذا بباب البيت المقابل له ينفتح بسرعة وينفلت منه غلام كأنه يحاول الانفلات من عقوبة تلاحقه.. وقد تبعه صوت غاضب وشديد لم يبلغه مع الصوت لفظ بين معناه، إلا أنه كان جليا أن أمه في غضب شديد عليه، توقف الغلام عند العتبة قليلا.. ثم تحرك نحو السوق، مغرقا نفسه في الناس دون تحديد الوجهة.
أدرك الغلام العطش والجوع، شرب وتعذر عليه الطعام، طلبه فزجره الناس، وطردوه، وفي مشيه كان كل شيء حوله بدا له كأنه ضده. بين طامع فيه، وبين خائف منه.. يبعده كل من يقف إلى جواره عنه.. وحين أوشكت الشمس على المغيب.. اشتد خوفه، اشتد جوعه، ظهر له عجزه. وظهر له شدة فقره في آن.. وأن ليس له إلا أمه.. ولو كانت عليه غاضبة، وغير راضية.
عاد جريا خائفا من استحكام ظلمة الليل عليه.. إلا أنه حين وصل بيت أمه.. وقف خائفا من الدخول، فقد أدرك حب أمه له، وأدرك غضبها عليه بسبب ذنبه.. وحيث لا مكان.. ولا أحد غيرها سيرحمه.. ألقى بنفسه على عتبة بيتها.. راجيا وخائفا.. راجيا أن تفتحه له، وخائفا ألا تفعل.. فيبقى طيلة عمره مطرودا من كل شيء حوله.
أنا وأنت وكل واحد من الحجيج يكرر المشهد ذاته. وذات التفاصيل حين نتجرد لله، ونأتي بيته ثم نقول من تلك الأماكن القصية من قلوبنا - إلهي من لي غيرك أسأله كشف ضري، والنظر في أمري.. وأنا عبدك الضعيف، الفقير، المسكين المستكين العاجز عن تدبير نفسي.. لأننا جميعا عاصون له، مستحقون عقابه، وعلى يقين من حبه لنا، وقلوبنا خائفة منه راجية طامعة فيه وفي رحمته.. وهذا الحج هو ذات العتبة.. التي نلقي بأنفسنا عليها، والحياة موجعة للجميع، ومؤذية لكل من طلبها. ولا ترحم أحدا.
وقبل أن أذهب بعيدا في هذه العودة الفريدة إلى الله.. استوقفني تعالي صوت البكاء المرير من صاحبي الأمريكي.. لقد انبجس الماء وتم له لحظة اللقاء.. وهي كثيرة الوقوع والحدوث في الحج ومنازله لقد انفتح الباب.. وكان صوت الأم الحنون.
- يا ولدي ويا حبيبي.. لا تنم على العتبة فالبيت كله لك ومن أجلك أنت بنيته، لبيك اللهم لبيك، يا رب البيت ومالك البيت هذا عبدك بين يديك.