رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أصل التنمية الغائب

بهذه المفردات الثلاث: المكان والزمان والإنسان .. تختصر قصة الحضارة على الأرض، إلا أن هذه التركيبة تتكون من مفعولين لفاعل واحد هو الإنسان في زمانه ومكانه. إن فشل مشاريع التنمية في العالم العربي خاصة والإسلامي عامة في جله وأكثره إلا القليل النادر الذي تعذر تكراره في العالم العربي مثل التجربة الماليزية في صناعة الفكر والثقافة واستقامة السلوك ورقي الإنسان، ونجاح التنمية المستدامة.
اليابان كتبت قصة نجاح جديدة في زمن قصير، وعلى أرخبيل من الجزر الضيقة التي تمثل حبات خرز في مسبحة الزلازل الأكثر قسوة، ورغم مرارة الهزيمة العسكرية المذلة، وشروطها المجحفة، وجموح حركة أصابع الزلازل التي لا تتوقف ولن تتوقف .. إلا أن إنسان اليابان، وجد سر التنمية، وقبض على أصلها المفقود، فكانت اليابان النموذج الذي لا تنتهي تفاصيل تجدده، ورقيه، وعطائه.
ألمانيا كانت مقبرة حقيقية .. بعد الحرب العالمية الثانية وكان اجتماع برشلونة لإعادة إعمار أوروبا .. أجمع من حضر فيه بأنه بات من المحتم أن تعيش ألمانيا في القرون الوسطى لزمن غير قصير، حتى تعود للحضارة والمدنية تدريجيا، إلا أن أحدا لم يكن ليتصور أن، هذا الإنسان المهزوم، المكسور المتكسر، كان يلتقط مع جثامين وأشلاء الضحايا، عزيمة، وكرامة، وثأرا لنفسه من خلال التفوق المذهل على المنتصرين عليه في الطب، والصناعة، والزراعة. والثراء الحقيقي لمن كتبت له حياة جديدة بعد الهزيمة الكبرى.
من يزور ألمانيا اليوم .. ويلقي بنظره تلقاء خزائنها العامرة باقتصاد متين، وقوة إنتاج لا يسبقها إليها أحد من العالمين .. هذه الجدية في الإنتاج المبالغ فيها، كأن الألماني مطارد دائما بهاجس تفوق الآخرين عليه، كما انتصروا على حلمه العسكري الكبير. وعلى الفولاذ الذي كان يلتف حول المدرعات والدبابات، ولم ينتصروا على الألماني الذي صنعها وأبدعها ولم يكسروه في نفسه أبدا.
في كتاب الله الكريم .. يروي قصة أصحاب رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - والرجال الذين من حوله، يصفهم الله أنهم أميون أي بلا تعليم، ودون معرفة، إلا أنهم كتبوا للبشرية مصائرهم في ربع قرن فقط. وأن النبي الأمي بدأ معهم ''بالتزكية لنفوسهم أولا'' ثم التعليم، بدأ بطهارة الباطن، ثم استنارة العقل، وبذا كان من الطبيعي أن يكون الواقع والناتج نجاح التنمية والحضارة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) إنها شهادة لا نظير لها ولا مثيل لها في تاريخ البشرية.
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).
التنمية، والحضارة، والبناء تبدأ هكذا وبهذا الترتيب الحصري، ولا سبيل لنجاح أي تجربة أخرى بديلة عنه، حيث سينالها العطب في مكان ما، وسيدركها الفشل ولو بعد حين. حضارة العلم بلا تزكية، استحالت إلى ضحية سهلة لعقل عظيم لا يمكن السيطرة على قدراته في الجريمة والقتل وانتهاك كل شيء لينال ما يريد. وبات الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يمكن الوثوق به في هذه المجتمعات المعاصرة.
يتعين إذاً بعد هذه المسافة الهائلة من الزمن، والمريرة، والموجعة من الفساد البادي الذي لا يحتشم من أحد، وبعد هذا الفشل المتكرر في أكثر من تجربة، وفي أكثر من مكان، وبعد هذه التحولات السريعة في جلها وأكثرها ليست إلى الأفضل ولا نحو ما نبتغي ..
أن نعود، إلى الترتيب الإلهي، أن نقبض على أصل التنمية المفقود في مشاريعها، وخططها، وجداولها الزمنية وهو: ''صناعة، الأخلاق في الإنسان'' أولا، ثم المعرفة والوعي ثم الحكمة العملية، وتهذيب السلوك، بدلالتها الشاملة الجامعة المتكثرة.
يتعلم الطفل الياباني تسعا: الأخلاق، وأدب السلوك، ويربى على عفة النفس، وعفة اليد، وإن طرق التربية تتنوع، وتختلف، وتتعدد. لأن النفوس طباع شتى، وما يستثير نفس، قد لا تستجيب له نفس أخرى. ليس الأخلاق هناك قصة الثعلب والعجوز والدجاجة في كتاب المطالعة.
ولا ينتهي الأمر بحديث أنس بن مالك عن نبي الله عن علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان!
المعلم هناك، يستحضر تطبيقات عملية، يستحضر الحس والقصة المصورة، والأدب الرفيع.
لأنه معني بأن يكون هذا الصغير الآن صالحا للخدمة العامة في المستقبل. صالحا لكي يؤتمن على زوجة يصونها، ويموت دون شرفها، ويضنى من أجل سعادتها.
وكي يكون صالحا ليؤتمن على المال العام، فتعف نفسه عنه، وتمنعه مروءته لنيل ما لا يستحق، وأن المعلم الذي يبلغه خبر أن أحد تلامذته سرق، أو نهب المال العام، ولو بعد 20 عاما من خروجه من بين يديه، يجعل نفسه شريكا في هذه الجريمة، ويوصم نفسه بالعجز، والفشل، وأكثرهم يقدم اعتذاره للمجتمع! لأنه فشل في التربية والتهذيب.
إن كثيرا من الدول العربية لم تنجح في التنمية لأنها فشلت في صناعة الأخلاق، والتهذيب، والمعرفة والوعي، والحكمة العملية لمواطنيها .. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .. إلى فساد لا مرد منه ولا خلاص يُرتجى. وهذا ما يمكن تسميته بـ''أصل التنمية الغائب''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي