«الوطنية» و«المواطنة» ليس كلاماً!
الوطن هو جزء من كيان أي إنسان، لا يستطيع الانفكاك منه مهما حاول، حتى في حال نشوء خلاف أو عدم تعايش مع هذا الكيان، الأمر الذي قد يُحدث اغتراباً عن الوطن وهو بداخله، ومع ذلك لا يستطيع الإنسان أن ينفصل ويقطع جذوره وارتباطه الوجداني المحسوس وغير المحسوس بالوطن. والوطن رقعة جغرافية يرتبط بها الإنسان وجدانياً وعاطفياً وثقافياً ويشعر بانتمائه لها، لدرجة الاستعداد للتضحية من أجله والدفاع عنه، ومن الصعوبة بمكان أن يبني الإنسان حياته، ويحقق أحلامه دون وطن يرتكز عليه وينطلق منه. ومفهوم الوطن ليس حكراً على الإنسان، بل إن الحيوانات تحدد لها وطناً وتدفع بحياتها دفاعاً عنه. وفي هذا السياق يقول الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
كما يؤكد ذلك المقولة المشهورة لرئيس الولايات المتحدة جون كنيدي "لا تسأل ماذا يمكن أن يقدم لك وطنك، ولكن اسأل ماذا يمكن أن تقدم (أنت) لوطنك". فكثير من الناس ينتظر ويترقب ماذا يُقدم له الوطن، دون العناء في التفكير لتقديم ولو اليسير لهذا الوطن المعطاء! خدمة الوطن لا تعني بالضرورة الذهاب إلى جبهات القتال، وليست بالضرورة من خلال الإنفاق من المال الخاص، أو القيام بالعمل الشاق؛ إن من البر بالوطن أن يكف الإنسان شره عن وطنه، فلا يدمر بيئته الطبيعية، ولا يوسخ شوارعه، ولا يستنزف موارده كالمياه مثلاً، ولا يدمر ممتلكاته العامة، ولا يسرق المال العام، ولا يعبث بأمن الوطن والمواطن، ولا يثير الرعب بين أبناء وطنه، وألا يسهم في تدمير عقول أبناء هذا الوطن من خلال تسميم أفكارهم أو توجيههم للانحراف الفكري. لذلك نحزن عندما نسمع عبارات تُردد كثيراً مثل "الوطن الغالي" و"خدمة الوطن" و"التضحية من أجل الوطن"، ثم نكتشف رصيداً خاوياً من الوفاء، ويتبين أن الممارسة تختلف عن التشدق بالكلام وإلقاء الخطب الرنانة.
ولكن بقدر ما للوطن من حقوق، فإن عليه واجبات تجاه المواطن ينبغي أن يفي بها كي ينعم المواطن بالراحة والحرية والعيش الكريم، ومن ثم يستشعر معنى "الانتماء للوطن". ومن هذه الحقوق العدل والمساواة والمشاركة في صنع القرارات التنموية. هناك قضايا معلقة على الساحة قُتلت حواراً، وأنهكت بحثاً وجدلاً.
ـــ تأتي البطالة في مقدمتها، وتسعى الدولة جاهدة للحد منها، ولكن بطالة النساء لم تتغير كثيراً، لا تكفي المسكنات والحلول المؤقتة، ولكن ينبغي حل القضية من جذورها من خلال التعليم والتدريب الجاد من جهة، وتحسين بيئة العمل والأجور وتوفير فرص وخيارات حقيقية للمرأة من جهة أخرى.
ـــ لا بد أن تتمتع المرأة بالحياة الكريمة في وطنها دون تجرع كأس المآسي والمعاناة من العنف الأسري، خاصة مع غياب وتفعيل أنظمة وقائية وأخرى رادعة، وليس ببعيد عن الأذهان مأساة "سميرة" التي تناقلتها الصحف قبل أيام، سميرة التي حُبست وعُذبت 11 عاماً في غرفة بسطح منزل أسرتها في مدينة أبها، دون وجه حق، وضاعت حياتها وذهب معذبوها طلقاء دون عقاب!
ـــ المياه كانت وما زالت وستبقى من القضايا التي تمس الأمن الوطني ويتوقف على توافرها استدامة التنمية في المملكة، فمن المفترض أن يكون هناك استراتيجية فاعلة لتنميتها والحد من استنزافها الجائر وتلوث مصادرها من جهة، وأن تكون المملكة "قبلة" في مجال تقنية تحلية المياه من جهة أخرى! فهل يتغير الحال قريباً؟!
ـــ التشدد الديني والتكفير أو "التصنيف" لمجرد الاختلاف في الرأي أصبح من القضايا الوطنية التي تستدعي الالتفات والاهتمام ليس من قبل الحكومة فقط، بل من قبل المجتمع كذلك. فما دام الاختلاف طبيعة بشرية، فلماذا يسعى البعض لإنتاج قوالب فكرية متماثلة لا تؤمن بالتسامح؟!
ـــ إرساء دعائم العمل المؤسسي وتطبيق الحكومة الإلكترونية للحد من الفساد وتدخل الأهواء في صنع القرارات التي تمس المواطن وتخدش العدالة والمساواة في الفرص والحقوق.
بكل تأكيد، يحق لنا أن نحتفل بذكرى اليوم الوطني (83) ونحتفي بالوطن ونفخر به، لما ننعم به من أمن واستقرار، ولما يحمل هذا الوطن من رؤى وتطلعات نحو تحقيق المزيد من التطور وإرساء دعائم العمل المؤسسي الذي ينعكس بجلاء في كلمة ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز ـــ يحفظه الله ـــ التي يقول فيها (بالنص من جريدة "الاقتصادية"): "إن ضمان الاستقرار في الدول لا يأتي بالتمني، بل بالعمل الجاد لإقامة العدل بعمل منهجي منظم يقوي مؤسسات القضاء ويفعل أدوات رصد الفساد ويعزز النزاهة وينشر ثقافتها ويضمن بالتشريعات والأنظمة والقوانين حقوق المواطنين وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم".
في الختام ندعو للمؤسس الملك عبد العزيز ـــ يرحمه الله ـــ بالأجر والثواب على توحيد هذا الكيان جغرافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ليعم الخير والرخاء والأمن، ولكن يبقى الدور والمسؤولية على هذا الجيل لتقدير هذا الإنجاز والمحافظة عليه ورعايته وتطويره لكي يستمر النماء والخير ـــ بإذن الله.