رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الفقراء.. الفقراء يا وزارة العمل

لم يعد الفقير بقادر على أن يتشبث بشيء وطوفان السعودة الملزمة للمشاريع الصغيرة يجرفه إلى مزيد من الفقر وانعدام الحيلة. ثمة فارق جوهري بين النهر والطوفان. النهر يجري لمستقره في حد محدود، وارتفاع معلوم، وتدفق على هدي مقدر، لا يبغي على حروفه، ولا يطغى على مزارع أطرافه. أما الفيضان.. فذاك المقتحم لا يبصر أمامه ولا يتلفت من خلفه، ولا يمهل أحدا ليسلم من الغرق به، والغرق فيه.
كثيرة هي أبواب الرزق التي ستنضب، إن لم تتريث وزارة العمل، وإن لم تبصر وجوب التصنيف للمشاريع ووجوب فهم طبيعة النشاط، وإمكانية تطبيق السعودة فيه من عدمه. إن هذا التصنيف سيجعلنا لا نخسر كل شيء، ثم نجد أنفسنا نسعى جاهدين لبناء ما هدمناه، وإرجاع ما فقدناه، فليس كل هارب مرودا، ولا كل ساقط يمكن التقاطه.. فالمتغيرات كثيرة، والبدائل غير حاضرة، والتحول في القيمة دائما تتجه نحو الأعلى. وأن هدم كل بناء يعني أننا سندفع فوق ما نطيق لنعيد بناءه.
''التطبيقات'' فيما يمس حياة الناس لا يمكن أن تكون مطلقة، ولا يجوز أن تكون كذلك، فكل تعميم يحتويه ظلم، وكل مصادرة للمجموع فيه بغي ظاهر، وكل استغراق لسوق هو إعلان عن خرابها.
لا أحد يعارض أداء واجب لوطنه وأهله، كما لا أحد يؤيد إغلاق سبل الرزق للضعفاء، لأننا فرضنا عليهم شروطا، ونحن على يقين أنهم عاجزون عنها. لا أحد ضد الحلول الموجعة، ولكن الجميع ضد صناعة الضحايا.
في كل وزارة.. يجب أن يكون إنسان هذا الوطن هو غايتها، وهو هدفها الأسمى، وأن هذا الإنسان الذي أنشئت كل هذه الوزارات، وكل هذه الميزانيات من أجله.. يُحرَم جعلُه ضحية لأي تشريع من تشريعاتها.
ولعلي أسوق مثلا واحدا من أمثلة كثيرة جدا: كيف يفرض على خباز تنور يتكون من 24 مترا، ويعمل فيه رجلان، يظلان طيلة ساعات العمل واقفين على أرجلهما. ويواجهان نار التنور بلصق أرغفة الخبز ونزعها منه، ويصطليان بوهج ناره وحرارته دائما! ولا تتجاوز عوائد هذا المشروع ثلاثة آلاف ريال شهريا، يتقاسمها صاحب المشروع وعاملوه. كيف يلزم هكذا مشروع بالسعودة وبراتب ثلاثة آلاف ريال وتأمين 600 ريال، وتأمين صحي سنوي! وكيف ينهض مشروع كهذا بهذا العبء المالي الهائل على موارده الضامرة، وما عسى السعودي أن يعمل في هذا المكان؟ إلا إن كان المطلوب التوظيف الصوري. ويتم استيفاء ثمنه من المشترين بكل تأكيد، وهذا غير متاح في مثل هذا النشاط، ما يعني تحول هذا القرار إلى قرار بحكم الضرورة ورفع الضرر إلى قرار بإغلاق هذا النشاط نهائيا في كل القرى التي اعتادت من سنوات طوال على هذا الخبز تحديدا.
وهكذا عشرات المشاريع الصغيرة، التي فرض عليها أن تغلق، وألا تستمر بالرغم من خدماتها الاجتماعية الكبيرة لكونها بالغة الأهمية في محيطها ومكانها وحاجة الناس إليها.
نعني بالتريث في التشخيص فيما يمكن أن يُسعود، وفيما لا يمكن أن يسعود مع حاجة الناس إليه، نعني بالتريث التوقف عند المشاريع، التي إن ألزمت بالسعودة تلاشى كل ربحها لصغر العائد وتواضع الكسب فيها.
ربما غياب أداة الاستثناء في هذه التطبيقات، والتعميم لصغار الكسبة وصغار التجار، ودون مراعاة تفاوت البيئة الاجتماعية، والاقتصادية في مدن المملكة، وعدم التوقف عند شخصية المدن وطبيعتها، يجعل التخطيط لم يستند إلى أولياته وهو تصنيف العمق الاقتصادي لكل مدينة. فما يصلح لمدينة ويعتبر دواء وعلاجا لها، قد يكون مرضا مميتا لبيئة اقتصادية أخرى، ومجتمع آخر.
المجتمعات كالجسد البشري. ما يلائمك لا يعني أنه يلائم غيرك بالضرورة. فكل جسد له مناعته الخاصة، وقوته الخاصة. واستجابته الخاصة.
هذا النمط من التشريعات والقوانين يتحول إلى ما يشبه العقاب الجمعي، أكثر منه تنمية وتصحيحا، فكيف لمدينة لا يوجد فيها بديل واحد عن هذه المخابز، يُفرض عليها ما يفوق قدرتها وينتهي إلى إغلاقها. الضحية هم الناس، والمتضرر هو المجتمع الذي يفترض أن التشريع وجميع القرارات تتجه نحو مصلحته وخيره وتحقيق طموحاته وتطلعاته واحتياجاته.
لذا ومع تنامي عبارة ''للبيع'' وانحسار محال كثيرة حاجة الناس إليها ملحة جدا بسبب فرض السعودة دون تبصر بتفاوت القدرة، وبتفاوت العمق الاقتصادي، والبيئة الاجتماعية الحاضنة لهذه المشاريع، نجد وربما تكون إمارات المناطق ومكاتب العمل والبلديات في كل مدينة هي القادرة على رفع قوائم المستثنى منه، على نحو السرعة لعدد هائل من المشاريع الصغيرة، في كل منطقة قبل أن ندمرها ونغلقها ثم نصبح على ما فعلنا نادمين لكوننا سنهدر ملايين تأسيسها، وستفرض علينا الحاجة عاجلا أم آجلا العودة إليها لندفع ملايين أخرى في بناء ما نهدمه ونغلقه اليوم. لنعيدها تارة أخرى وبما كانت عليه اليوم.. إنها مشاريع الفقراء ثم الفقراء يا وزارة العمل التي تدير أرغفة الخبز في صحون أطفالهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي