نجران .. المستقبل الحاضر
حين تشرفت بالدعوة الكريمة من إمارة نجران لحضور المؤتمر الاقتصادي الثاني لنجران، كنتُ حريصا على الامتلاء بالزمان والتاريخ والمكان، بكل صغائره، ومن كل زواياه، ومن جميع أطرافه، وكنتُ قابضا على صبر المتأمل وطول صمته .. كي تنجلي عن الواقع أستاره، وكي تزول حجب الحاضر عنه، وكي يبصر المرء المآل والمكنون، فلكل سير له وجهة هو موليها، وإن كل خطوة من الأيام لها مستقر تسعى إليه وتقصده. وإن لكل تغيير مقدمات ضرورية يجب أن تحضر، وتستحضر لتتم النتائج. وتتحقق الأهداف والمقاصد. وقصة نجران اليوم قصة أخرى، وقدرها الآن قدر مختلف ومغاير عما مضى في عمر زمانها كله. وتاريخها العريق المتقادم.
من الطبيعي جدا أن ينتمي المستقبل لهؤلاء النجرانيين الذين استعدوا له، والذين فتحوا قلوبهم وعقولهم وحقولهم له قبل أن يتنزل على جبال نجران الشامخة نزولا إلى سفحها الأخضر بنبات الله وبعظيم عطاياه.
هذه العطية الطاهرة، التي تسقيها السماء من مزنها، عذوبة صافية لا تحد، وتروي بأصابعها سعفات نخيله الباسقة، الرفيعة المتعالية، كأهلها، وطهارة قلوبهم هذا المستقبل الذي تقف نجران اليوم بأميرها - الأمير مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز - وهو عقلها الرشيد، ونضج تجربتها، وعينها وبصيرتها ومستقبلها الحاضر.
حضر إليها قائدا سويا وبهذا الأمير المحب للصمت بمقدار حبه للفعل والتغير والإبداع .. باتت نجران تختار من المستقبل أجمل ما فيه، وتتباعد عن سوء المنقلب الناشئ من حماسة التنفيذ قبل التخطيط العاقل الصبور، أو ذاك الناشئ من الانفعال دون التبصر بالنتائج والنظر إلى العاقبة الأخيرة التي تنتهي إليها الأمور، أو الرغبة في تحقيق إنجاز وقتي، يجر وبالا على من يرثه ويُرحل إليه.
وهذا كله ما ينوء بحمله .. هذا الأمير الشاب الباذخ الطموح في تكوين الوعي بنجران، وإعادة كتابة الواقع من السطر الأول، ومن اليوم الأول. وكأن كل شيء هناك بات قدره أن يعيد تصحيح مساره، وإعادة كتابة حياته من جديد، واتباع أول الشفق، قبل أن تقرأ الشمس على نجران وأهلها، سورة النور وخواتيم سورة الرحمن.
- سبع سمان..!
التنمية في كل زمان ومكان ليست رغبة ولا شهوة لها نوازعها من جسد المجتمع، وإلحاح من قيادتها فحسب، بقدر ما هي فعل يسبقه التخطيط، والتروي، وحكمة الاختيار، وعدم تفويت الفرصة الأفضل، والاختيار الأكثر حكمة وبقاء. فمع كل قرار يتم تقرير مصائر كثيرة .. يستوجب حكمة التروي أكثر من مرة.
وهذا ربما ما جعل عددا من وزراء الدولة يدخلون مباشرة في عقل التخطيط، لكي لا تنفرد نجران وكأنها قارب صيد في محيطها الوطني، لكي يتم التخطيط بوصف نجران واحدة من كل أكبر، وبوصفها مكملاً فيما تستطيع تكميله لهذا الوطن الكبير، وليس مطلوبا من نجران أن تعاند طبيعتها التي خلقها الله وكونها بها، وفق قدراتها الطبيعية والمكانية.
الواقع الذي يتلاءم مع عدم زوال صفة البراءة عن بيئة نجران، وعن ناسها، وتاريخها، الموغل في التاريخ، هذه المدينة التي تنام على أعتاب تاريخ لا تنتهي تفاصيله .. ولم يرفع كثبان الرمال بعد عن مكنونات التاريخ في بطون صحاريه، وكهوف جباله.
المؤتمر تحدث عن ''السبع السمان'' القادمات من فعل الصناعة، وفعل تقريب المسافة، وهذا قرار جاد حاسم لا هزل فيه ولا لعب.
وهذا ما تبصره كل عين عن حجم التحولات السريعة والهائلة في نجران، لم يكن المطار آخر المنجزات السارة والسريعة فيه .. وليست المدينة الصناعية التي تستجلب الإنتاج والتصنيع على أرضها. ولكن ثمة أمرا آخر قبضت على آثاره في النفوس والعقول وهو:
هذا الإصرار العنيد على تبني رؤية الحلم الكبير .. والتجربة الكبرى .. لتنمية نجران، الحلم الكبير الذي لا يتحقق إلا إذا عاشه المجتمع كله، وعمل المجتمع بكل مكوناته، وقدراته من أجله، وفي سبيل تحقيقه. ومن أجل أن يتماثل حقيقة حاضرة، ترصف الطوب وأشجار السنديان فوق شوارعها، وفوق مسارات متاحف التاريخ المفتوحة على أرضها، والمبعثرة في قراها، والمطلة من على قمم جبالها.
إنه قدر ليس يسيرا كما هو في الكتابة، وليس سهلا كما هو في الحديث عنه .. إنها مهمة شاقة جدا، ومتعبة كثيرا، وبعيدة في الزمن لها طي ونشر، يطويها صدق العزيمة، ووضوح الرؤية. ويمدها اضطرابها، والتفرد بذاتها عن محيطها القريب، وقدرتها على الطهارة من الفساد بكل أنواعه وصنوفه فمع كل خطوة تخطوها نجران اليوم سبيل إلى حياة أفضل، وأرغفة خبز حاضرة القرب في أطرافها، تسترجع من تباعد في طلبها إلى حواضر أخرى كانت السبل فيها متاحة والعطاء فيها أجزل. إن نجران اليوم عادت تلملم من أصابع الشمس حبات الذرة، وسنابل القمح.
وللحديث تتمة في المقال القادم - إن شاء الله تعالى - أتناول فيه المزالق والمخاوف والتحديات التي من الحكمة النظر فيها والوقوف عندها، والله ولي التوفيق.