رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بريئون ولكن معذبون

موضوع الحديث في هذا المقال ''يُقطِّع الكبد'' من شدة وقعه على النفوس الزكية الطيبة التي تخشى الله وترجو رحمته. فالكثيرون منا لا يشعرون بما تعيشه فئة من أفراد وجدت نفسها ضحية لفعل غيرها. فما ذنب طفل أو طفلة رماهم انعدام الرحمة في عز الصيف أو شدة برودة الشتاء، حتى يعثر عليهم فاعل خير ويبلغ عن مكان المولود الجديد. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. ومن هنا تبدأ قصة المعاناة الأبدية التي سيعانيها هذا المخلوق الضعيف طوال سنين عمره. أفراد المجتمع من حوله لاهون وأكثرهم غافلون، إلا من هدى الله.
والأمر المهم الذي لا يدركه الكثيرون، هو أننا جميعاً مسؤولون أمام الله وأمام خلقه عما تتعرض له هذه الفئة المنكوبة من ظلم وإقصاء وتجريم لفعل لم يكن باختيارهم ولا من تدبيرهم. المنبوذون، أليسوا بشرا؟ فأين نجد العذر أمام أنفسنا وأجيالنا، ليس فقط لإنكارهم، بل لذمهم واحتقارهم؟ أليسوا بشرا يملكون عواطفَ وأحاسيسَ كالتي نشعر بها تجاه بعضنا البعض؟ فلماذا نقصيهم أحياء ونزهق نفوسهم من الحرمان وندعهم يطلون علينا من مساكنهم المعزولة ونحرمهم حتى من الشفقة المكتومة؟ نظراتنا إليهم كلها شزر ومعاملتنا لهم نذر، وربما أن البعض يدعو عليهم، والعياذ بالله.
فليتخيل أحدنا، أن يضع نفسه مكان أحد هؤلاء التعساء، ليجرب وليشاهد بنفسه الحياة التي مِلؤها الأسى والحزن والألم والحرمان. وليبدأ رحلة العمر من أول يوم وجد نفسه مرميّاً في العراء، وعمره لا يتعدى بضع ساعات من ولادته. يسمع صراخه. وبدلا من أن يكون في حضن أم حنون تلثم كل بقعة من جسده وتلقمه ثديها الدرار وتلصق بجسده الغض جسدها الدافئ وتسهر على راحته، تراه يحس بيد خشنة تنتشله من الأرض وتضعه في سيارة إسعاف إلى أقرب بيت للأيتام. مع أن أمه وأباه على قيد الحياة. وتستمر قصة الحرمان والمعاناة. لا أم تغذيه من صافي لبنها ولا حبيب يمسح دموعه ولا إنسان يتألم لحاله. ومسكنه الجديد سلة في غرفة واحدة مع درزن من رفاقه سيئي الحظ. وبالنسبة للذين يتربون في أحضان أب وأم، تجد الطفل محل اهتمام خاص منذ أن يفتح عينيه وعندما ينطق لسانه ويبدأ يحبو على الأرض. تلاحقه العيون وتفرح لفرحه القلوب ويتسابق على حمله الصغير والكبير. ويعرف من يلتجئ إليه وقت الحاجة، إن لم تكن الأم فعلى الأقل الأب. أما ذلكم المخلوق المنبوذ، فكل يوم يشاهد وجهاً جديداً، يراه وقتاً قصيراً ويغيب عنه طويلاً. فلا تكاد مخيلته تميز بين إنسان بعينه وآخر يمر عليه مرور الكرام. وتتضاعف المعاناة مع تقدم العمر. فبمجرد أن ينطلق في المشي ويستطيع الوصول إلى نوافذ السكن، يرى مشاهد غير مألوفة له ولزملائه. أطفال في سنه يلعبون ويمرحون بحرية تامة في الشوارع الفسيحة ويسيرون بجوار رجال ونساء، وهو شبه مقيد داخل فناء مقر الإقامة. فيحس بشيء في نفسه يشعره بأنه من جنس آخر. وتأتي الطامة الكبرى، عندما يبلغ سن الدراسة، فيرى نفسه، هو وزملاء السكن، ينقلون إلى المدرسة دون توديع حار عند الخروج ولا استقبال حميم عند العودة من المدرسة. كل شيء في حياته ونفسه الطرية جاف جفاف هواء الصحراء. ويلاحظ البشاشة والفرح على وجوه زملاء الدراسة من الطلاب الذين يحضرون بصحبة آبائهم أو مرافقيهم. ومع مرور الزمن يستكشف ويعرف أن لكل زميل دراسة أباً وأماً يتحريان قدومه وله إخوة وأخوات يلعبون سويّاً ويستأنسون ببعضهم. ويا ليت هؤلاء الزملاء بعد العطلات والإجازات يظلون ساكتين. فهم يزيدون آلام الوحدة والحجز الذي يعيشه بسواليفهم الطويلة عن رحلاتهم وسياحتهم ومغامراتهم، وهو القابع بين جدران دار الأيتام طوال حياته، إلا من رحلات ترفيهية نادرة لا جديد فيها ولا طعم لخلوها من مصاحبة الأحباب. ويكبر وتكبر همومه، بعد أن أدرك أن لكل إنسان في هذه البلاد اسماً مركباً وعائلة معروفة وأولاد عم وخال وأقارب. وهو لا يملك من ذلك شيئاً. يا حسرة على حياة ما لها طعم. ويصل مرحلة الرجولة، فيكتشف أنه غير مرغوب فيه بسبب أصله وفصله، وهو الذي لا يعرف لنفسه أصلاً ولا فصلاً. حسبنا الله ونعم الوكيل.
ولنعد، بعد هذه الرحلة التخيلية الشاقة إلى أنفسنا وإلى حياتنا ونحاول استعادة ذكرياتنا مع أحباب لنا نسيناهم ونسيهم الدهر. يعيشون بين ظهرانينا ونحن نعطيهم ظهورنا ولا نلقي لهم بالاً، بل الأسوأ أننا نشعرهم بأن وجودهم غير مرغوب فيه بعد ما وُجدوا، وكأنهم هم الذين اختاروا قدومهم إلى واقعهم المؤلم. فهل سنظل على هذه الحال؟ صحيح أن هناك أعرافا وتقاليد، منها ما هو مقبول وكثير منها غير مقبول. ونحن هنا نتحدث عن واقع إنساني لا مفر من مواجهته وحل رموزه والقبول بما قدر الله على هذه الفئة التي نحن مسؤولون عنها وعن مصيرها. وإذا كان لا بد من عمل إيجابي يقلل من مسببات هذا الوضع، فلنتحمل المسؤولية ونحافظ على أجيالنا ونحميهم من الوقوع في مخالفات الأوامر الدينية والعرف الاجتماعي، وابحثوا عن الحلول التي تخفف من وطء المعاناة لإخوان لكم يعيشون غرباء بين ظهرانيكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي